ترجع أصول الوضع المضطرب في إقليم القرن الأفريقي إلى تجربته الفريدة في العهد الاستعماري، لا سيما عمليات ترسيم الحدود، وسوء إدارة الانتقال السياسي، وصولاً إلى الحكم الذاتي، وما تلى تلك المرحلة من تنافس أميركي - سوفياتي على الإقليم، من خلال علاقات بالوكالة فاقمت الآثار الكارثية للصراعات الخارجية والتي تصاعَد حجمها بفعل تدفّق أعداد كبيرة من المستشارين العسكريّين والأسلحة والمساعدات والقوات الأجنبيّة في عقود الحرب الباردة. هذه الصراعات متعدّدة المستويات غذّت حالةَ عدم الاستقرار والنزعة القومية الإثنية المزمنة (Melvin, Neil, SIPRI, April 2019)، والتي استمرّت تداعياتها حتى اليوم. لكن وصول آبي أحمد إلى رئاسة وزراء إثيوبيا، إحدى كبرى الدول الأفريقية في نيسان 2018، بشّر بالنسبة إلى محلّلين كثر بحدوث «تحوّل ديمقراطي» مهمّ وواسع في الإقليم، على رغم وصول أحمد إلى منصبه بمقتضى عملية «غير سياسية»، وفي ظروف غامضة تكشّفت بعد إقالته منافسه - وقتها - وأحد أوثق رجاله، وزير الدفاع في حكومته ليما مجرسا (آب 2020)، وتعيينه رئيس جهاز الأمن السابق في إقليم أوروميا، كيني ياديتا، محلّه، ما رجّح فكرة وصول آبي أحمد «بترتيبات أمنية». وانعكست إشكالية تسلّم السلطة في هشاشة مقاربات رئيس الوزراء الإثيوبي الداخلية والإقليمية، لا سيما جهوده المشتركة مع الرئيس الإريتري، أسياس أفورقي، لـ«إعادة ترتيب القرن الأفريقي»، وانحسار جهود الأوّل راهناً - بعد تمدّد إثيوبيا في الإقليم بما يفوق قدراتها الحقيقية - في الحفاظ على ما تبقّى من وحدة البلاد سياسياً.
آبي أحمد وإعادة ترتيب «القرن الأفريقي»
بالغت «الميديا» الغربية في الاحتفاء بوصول آبي أحمد إلى رئاسة الوزراء، وتوصّله إلى اتفاق سلام مع إريتريا (على رغم كونه اتفاقاً هلامياً، لم ينصّ على خطوات ومواعيد محدّدة، فضلاً عن حقيقة هندسته ورعايته أميركياً وسعودياً، وليس بمبادرة ذاتية من أحمد وأفورقي)، بوصْف ذلك خطوة على طريق تكوين «قرن أفريقي جديد». وزاد محلّلون أفارقة وعرب على ما تَقدّم توقُّعهم أن يعزّز أحمد، بانتهاجه «دبلوماسية تصفير المشكلات»، حالة السلم والأمن والتحوّل الديمقراطي في الإقليم، وأن ينقل تجربته - كقائد شاب - إلى بقية أرجاء القارة. لكن عملية «إعادة الترتيب» اقتصرت في واقع الأمر على تولُّد استقطاب سياسي على مستوى رؤساء الدول والحكومات في الإقليم، للدفْع بأجندة سلطوية تستهدف استنساخ «النموذج الإريتري»، والتبشير بإطلاق «تجمُّع اقتصادي» إقليمي - فرعي بين إثيوبيا وإريتريا والصومال وجيبوتي، وتعزيز النفوذ الإثيوبي في الصومال، بالتنسيق مع إريتريا، وفق ما اتّضح لاحقاً في نهاية تموز الماضي.
ومطلع العام الجاري (Toward a Peaceful Order in the Horn of Africa, Project Syndicate, Feb. 6,2021)، حدّد آبي أحمد رؤيته بالقول إن «سياسة إثيوبيا الخارجية تقوم على الاعتقاد بأن التكامل الإقليمي الأوثق سيفيد الجميع»، وإن السبيل الرئيس أمام إثيوبيا لتحقيق هذه الغاية، هو تفعيل منطقة التجارة الحرّة القارية الأفريقية، ضارباً المثل بممرّ أديس أبابا - نيروبي - ممباسا (مع كينيا)، وإعادة تأهيل الطريق الرابط بين أديس أبابا وميناء عصب الإريتري لفتحه أمام التجارة الدولية (وهي عملية لم تتمّ، وفق ما أظهرته يوميات أزمة إقليم تيغراي)، وتنفيذ خطّة افتتاح طرق جديدة لاستبدال القديمة مع ميناءَي جيبوتي وعصب (مع ملاحظة المفارقة الزمنية بين إعادة تأهيل طريق عصب واستبدال آخر جديد به في سياق وجيز للغاية، ما يكشف نزوع آبي أحمد إلى تحقيق منجزات على الورق لتسويغ سياساته).
على أيّ حال، لم يصل القرن الأفريقي، في صيف 2021، إلى بداية حقيقية لعملية إعادة الترتيب تلك، أو حتى العودة إلى نقطة ما قبل وصول آبي أحمد إلى الحُكم، بل إن الإقليم يشهد موجات فوضى ونزاعات إثنية ضخمة مرشّحة للتصاعد وتجاوز الحدود الإثيوبية إلى دول الجوار (لا سيما في إريتريا والصومال)، ربّما قبل نهاية العام الحالي.

تبدّل ديناميات العلاقة مع أفورقي
لاحظ مراقبون، منذ التقارب الأوّلي بين أحمد وأفورقي بعد اتفاق السلام بينهما (تموز 2018)، رؤية الأوّل للثاني بوصفه «أباً روحياً» جديراً بالاقتداء به. وبالفعل، فإن صعود أحمد صاحَبَه تغيُّر شبه كلّي في سياسات الأخير تجاه عدّة دول إقليمية مهمّة، أبرزها مصر، وهو ما كشف أهمية هذه العلاقة لدى أفورقي. وتجسّد التعاون بينهما في الترتيب لشنّ هجوم شامل على إقليم تيغراي (تشرين الثاني 2020) وتنسيق المواقف الرسمية في هذا الشأن. لكن، وعلى رغم توحُّد أهدافهما من «الحرب»، لا سيما للقضاء على «جبهة تحرير تيغراي»، فإن أفورقي خرج منها مستفيداً تماماً، على الأقلّ من الناحية الاستراتيجية، كما أنه نجح - بحسب مراقبين - في تحقيق أهداف عدّة، من بينها هدفه الرئيس: «بلقَنَة إثيوبيا»، عبر إذكاء الصراعات الإثنية داخلها، وإزاحة «جبهة تحرير تيغراي» من المشهد السياسي في إثيوبيا الفدرالية. وبشكل غير مباشر، فإن نزع الشرعية عن نظام آبي أحمد داخلياً، يجعل إثيوبيا غير قابلة للحُكم من دون دعم إريتري. وهكذا، فإن ما وصفه محلّلون بـ«زواج المصلحة» بين أفورقي وآبي أحمد، منح الأوّل فرصة فرض تكاليف عسكرية استراتيجية وجيوسياسية تعزّز بقاء نظامه إقليمياً، على حساب نظام أحمد وإثيوبيا. كما تلبّي الأزمة حاجة نظام أفورقي إلى أعداء في الداخل والخارج، وتصوير بلاده في حالة حرب دائمة، وبأن الإقليم برمّته في حالة تهديد عام، وهو ما سيضطرّ الإريتريين، كالعادة، لمقايضة الأمن بالحرية والديمقراطية والتنمية، لتستمرّ ديكتاتورية أفورقي في الأعوام المقبلة.
نزع الشرعية عن نظام آبي أحمد داخلياً، يجعل إثيوبيا غير قابلة للحُكم من دون دعم إريتري


تراجع النفوذ في الصومال
باءت الدبلوماسية الإثيوبية في الصومال بفشل ذريع، بعد محاولتها رفد الرئيس الصومالي المنتهية ولايته، محمد عبد الله فرماجو، الذي انتهج سياسة خارجية متناغمة مع محور أسمرا - أديس أبابا، بدعم كان متوقّعاً لتمديد فترة رئاسته عامين آخرين، لا سيما أن الأخير أرسل نحو خمسة آلاف جندي صومالي للمشاركة في حملة تيغراي تحت غطاء مهام التدريب العسكري في إريتريا، وبإشراف مباشر من جهاز المخابرات الصومالي، وليس قيادة جيش هذا البلد كما هو متّبع في بعثات تدريب صومالية أخرى في تركيا وأوغندا على سبيل المثال. وتَمثّل الفشل الإثيوبي في الاستبعاد العملي لفرماجو من المشهد السياسي الصومالي في شباط - آذار 2021، وتصدُّر رئيس الوزراء، حسين روبلي، الذي يتولّى مراقبة العملية الانتخابية الجارية حالياً، متجاهلاً أيّ اتصالات مباشرة مع آبي أحمد أو المسؤولين الإثيوبيين. ويبدو أن الفترة المقبلة في الصومال ستشهد تراجعاً إضافياً في نفوذ آبي أحمد وإثيوبيا في الشؤون الصومالية، خصوصاً بعد قرار مقديشو إعادة آلاف الجنود الصوماليين الذين توجّهوا إلى إريتريا، في ضربة مدوّية لصلات نظام فرماجو، أعقبت تحقيقات أجرتها الحكومة داخلياً.

فتور «الصلة الخاصة» مع جيبوتي
يمكن فهم الصلة الخاصة بين جيبوتي وإثيوبيا بالنظر إلى أن 85% من الناتج المحلّي الإجمالي للأولى يتحقّق من قطاع الخدمات؛ فيما تعتمد إثيوبيا على ميناء جيبوتي وبنية النقل الأساسية المتعلّقة به في تمرير 95% من تجارتها بحراً (قدّر «البنك الدولي» أن أكثر من 85% من أنشطة ميناء جيبوتي متّصلة بالتجارة الإثيوبية). على ضوء ذلك، كان الرئيس الجيبوتي، عمر جيله، من أشدّ الداعمين لسياسات آبي أحمد بعد أزمة تيغراي، وهو ما استمرّ حتى إعادة انتخاب الأخير رئيساً لبلاده في نيسان الفائت، حيث بدا أن ثمّة فتوراً واضحاً في العلاقات مع أديس أبابا بعد نيسان الفائت، خصوصاً على وقع تصاعد أزمة عدم الاستقرار السياسي في إثيوبيا، وامتدادها إلى إقليمَي العفر والصومالي الإثيوبيَّين والمحيطَين بجيبوتي، والذي أدى إلى قطع خطّ سكك حديد أديس أبابا - جيبوتي لعدّة أيّام قبل عودته في الأسبوع الأوّل من الشهر الجاري. وما فاقم الضرر الذي لحق بتلك الصلة الخاصة، انهزام القوات الفدرالية الإثيوبية والقوات المتعاونة معها، وإقدام أديس أبابا، بالتعاون مع شركة «موانئ دبي العالمية» وحكومة ولاية أرض الصومال، على تدشين العمل بمحطّة حاويات ميناء بربرة القريب من ميناء جيبوتي نهاية حزيران الماضي، الأمر الذي يهدّد مكانة الأخير على أكثر من مستوى. وإذا أُضيفت إلى ما تَقدّم خطط توسّع إثيوبيا في سياسة الموانئ عبر استغلال ميناءَي عصب ومصوع الإريتريَّين، وما يتردّد عن مطالب إثيوبية شبه رسمية بحقّ وصولٍ إلى ميناء بورتسودان وفق ترتيبات إقليمية، فإنّ الصلة الخاصة بين جيبوتي وأديس أبابا تكون آخذة في التآكل بشكل متزايد.

السودان وإمكانات استبدال الدور الإثيوبي
أعلن آبي أحمد، في الخامس من آب الجاري، رفْض أيّ مساعٍ للوساطة السودانية في أزمة إقليم تيغراي، على رغم وجاهة قيام السودان بذلك كونه أحد أبرز المتضرّرين من الأزمة، في ضوء عبء اللاجئين الإثيوبيّين والإريتريّين على أراضيه. وجاءت أنباء رفْض أحمد للوساطة، بعد ساعات من مناقشات موسّعة بين وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، ورئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك (4 آب)، اختُتمت بالاتفاق على ضغط البلدين لعقد مفاوضات تقود إلى «وقفٍ لإطلاق النار»، وتحجيم المواجهات التي امتدّت إلى إقليمَي الأمهرا والعفر. ويؤشّر الرفض الإثيوبي للعرض السوداني إلى تزايد مخاوف آبي أحمد من تصاعد حضور الخرطوم في ديناميات المقاربات الدولية لأزمات القرن الأفريقي. وهي مخاوف عزّزتها الاتصالات رفيعة المستوى والمكثّفة، منذ تموز الفائت، بين الإدارة الأميركية وحكومة حمدوك بخصوص ملفّات متعدّدة في الإقليم (من مثل الإرهاب، وأوضاع اللاجئين، والأزمة الداخلية في إثيوبيا، والعلاقات مع إريتريا).

تداعيات أزمة تيغراي
في مقاله الشهير المنشور في شباط الماضي على منصّة «Project Syndicate» عن السعي إلى نظام سلمي في القرن الأفريقي، استهلّ آبي أحمد رؤيته تلك بتأكيده أن «انتصار الحكومة الإثيوبية على جبهة تحرير شعب تيغراي قد تَحقّق بتكلفة مرتفعة»، وأن الوضع الإنساني في شمال تيغراي «يظلّ جسيماً». ويمكن تفسير خطاب آبي أحمد في أحد اتَجاهَين: إمّا جهل واضح بمجريات الأمور التي قادت إلى هزيمة الجيش الإثيوبي المذلّة (نهاية حزيران الفائت)، أو استمرار حالة «الإنكار» الملازمة للزعيم الإثيوبي منذ وصوله إلى الحكم. وفي تداعيات أزمة تيغراي الداخلية والإقليمية، يجري التحذير من نموّ حركة انفصالية، أمهرية هذه المرّة، في عضد نظام آبي أحمد. إذ تجاوز الإثيوبيون النظر إلى الانتخابات الأخيرة (11 تموز الفائت، والتي فاز فيها حزب «الازدهار» الحاكم بأغلبية 410 مقاعد من إجمالي 436 مقعداً) على أنها نقطة بداية جديدة لإطلاق حوار وطني شامل، لتنخرط الأقاليم المختلفة في اشتباكات إثنية قابلة للتمدُّد. كذلك، قادت أزمة تيغراي إلى أزمة لاجئين كبيرة في السودان، وولّدت تهديدات بإعادة انخراط أكبر للقوات الإريترية لتعويض خسائر الجيش الفدرالي الإثيوبي والميليشيات الأمهرية الموالية له (وسط تقارير تفيد بتحقيق «جبهة تحرير تيغراي» انتصارات متوالية في إقليم الأمهرا، معقل الدعم السياسي لنظام آبي أحمد حتى الآن على رغم حالة عدم الرضى عن أدائه)، وفرضت ضغوطاً عسكرية وأمنية على دول الجوار، لا سيما جيبوتي والسودان، لمنع انتقال أحداث العنف إلى داخل حدودهما. ويبدو، في المحصّلة، أن نظام آبي أحمد لم ينجح إلّا في رفع مستوى التهديد بفوضى شاملة في إقليم القرن الأفريقي، والدفع بفكرة أن المسوّغ الأوّل لبقاء هذا النظام، هو تفادي هذه الفوضى ليس أكثر.

نشأة «المسألة الإثيوبية»
أعاد روبرت كابلان R. D. Kaplan، في مقال في «فورين بوليسي» بتاريخ 9 تموز 2021، طرح رؤية غربية، «أرثوذوكسية» في واقع الأمر، لتطوّرات الأزمة في إثيوبيا، مستبعداً تداعي الدولة هناك، على رغم أنها «تبدو على حافة ذلك». وأعاد تحليل الوضع بتشديده على ضرورة تناول إثيوبيا «كمفهوم جغرافي وثقافي وسياسي» بالغ التفرّد. وخلط كابلان، بشكل مدهش وإن كان مألوفاً في التناول الغربي لإثيوبيا، حقائق تاريخية لدعم تحليله، مضيفاً عمقاً هويّاتياً أسطورياً عليه، من قبيل أن مسيحية «الطبيعة الواحدة» في إثيوبيا هي خليط من المعتقدات المحلية والأرثوذوكسية اليونانية (وليس المصرية الأم، ربّما آخذاً في حسبانه حساسية الإثيوبيين الحالية تجاه أيّ تأثيرات حضارية مصرية على تاريخهم)، وأنها تمثّل ثاني أعرق كنيسة مسيحية رسمية في العالم بعد كنيسة أرمينيا «على رغم صلتها باليهودية»، وما لذلك من تأثير متوقّع لدى «القارئ الغربي» باستحضار هذه الصلة وتعميق مقبولية إثيوبيا التي اعتبرها أكثر من دولة، وإمبراطورية سابقة كانت قائمة في حدّ ذاتها.

تداعت «أزمة تيغراي» خارج الحدود الإثيوبية، وقادت إلى أزمة لاجئين كبيرة في السودان


وفي ظلّ الأزمة الجارية التي تهدّد فعلاً بتجاوز مرحلة الصراعات الإثنية الإقليمية داخل إثيوبيا، إلى تفكّك على النمط اليوغسلافي، طرح كابلان فكرته الرئيسة - التي تبنّى خلاصتها حرفياً مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية السابق، تيبور ناجي، في تغريدة نشرها في 4 آب الجاري - بأنه بناءً على حقيقة أن إثيوبيا لم تُستعمر «رسمياً» في الماضي - باستثناء سنوات قليلة على يد إيطاليا في عهد موسوليني - فإنها «بكلّ وضوح ليست في فترة ما بعد الاستعمار»، وأن التوسّع الإثيوبي في القرن التاسع عشر، بقيادة ملك شوا منليك الثاني، وصولاً إلى سقوط هيلاسيلاسي (1974)، يشبه التجربة الروسية من العهد القيصري إلى الثورة البلشفية، إضافة إلى ما يصفه بنجاح منليك وخلفائه في «أفرقة هذه المملكة الإمبراطورية الشرق أوسطية». وقارن الحالتَين الإثيوبية واليوغسلافية باعتبار أن «الأغلبية الصربية الأرثوذوكسية» في إثيوبيا، وهم الأمهرا، أرادوا استخدام رئيس الوزراء آبي أحمد «لاستعادة إثيوبيا»، قبل أن ينقل عن خبير إثيوبي مطّلع فكرة أن كلّاً من الصرب الأرثوذوكس والأمهرا الأرثوذوكس «شعروا بأنهم أطراف مغبون حقّهم، وبأنهم يستحقّون مزيداً من السلطة، وفيما انقسمت يوغسلافيا إلى خمس قطع أو أكثر، فإن إثيوبيا يمكن أن تقع في فوضى تفوق (الحالة اليوغسلافية) كثيراً».
يكشف هذا الجدل المتهافت، بشكل واضح، عن تخوّف جدّي من صعود ما يُعرف بـ«المسألة الإثيوبية» التي ساهم في خلْقها نظام آبي أحمد بتسرّعه في استبدال مكوّنات التحالف الحاكم، وتصوّره أن نجاحه في قمع أيّ مطالب شعبية لمواطني الأقاليم المهمّشة مثل الصومالي والعفر وإلى حدّ ما أوروميا، قابل للتكرار في أقاليم أخرى من دون خسائر بعيدة المدى، كما بحزمة سياساته التقليدية مثل القفز فوق الاستحقاقات الديمقراطية المتعاقبة (والتي انتهت بمهزلة انتخابية في تموز 2021)، وتهميش قضايا التنمية الحقيقية لمصلحة مشروع سياسي غير واقعي بالمرّة، وتصوّرات زائفة بقدرة إثيوبيا، التي تقع في ذيل قائمة متوسّط الدخل في العالم وتتفوّق عليها بعض دول الجوار مثل جيبوتي والسودان وفق المؤشرات الاقتصادية «الموضوعية»، على استمرار ممارسة نفوذ إقليمي يظلّ في حقيقته مجرّد تعبير عن دور وظيفي لمصلحة الشركاء الدوليين والإقليميين، وليس نابعاً من مقدّرات حقيقية ومستدامة.

قراءة في شخصية آبي أحمد: الملك العاري
يمكن قراءة شخصية آبي أحمد وفق سياقَين رئيسَين: أوّلهما الحفاوة الدولية والأفريقية المبالغ فيها بوصوله إلى الحكم، والآمال التي عُقدت عليه مبكراً لقيادة بلاده، والقارة الأفريقية في مرحلة ما، نحو تحوّل ديمقراطي أصيل؛ وثانيهما الإفراط الواضح لديه في تبنّي مقولات وخيارات تاريخية وثيولوجية وميثولوجية ومزجها بمقارباته السياسية داخلياً، من دون تبنّي خطاب سياسي ملتزم وواضح وتجاوز التعميمات السطحية التي دأب على استحضارها في مناسبات شتّى، بل وصاغها في كتاب «فلسفي» حمل عنوان «Medemer»، ووُصف بأنه مجرّد صياغات بلاغيّة بالغة السطحية، أو حتى إظهار قدر من الفهم الضروري لديناميات التحوّلات داخل إثيوبيا والقرن الأفريقي، بعيداً من سياسات تسويق المواقف والتعويل على مشروعية «نوبل للسلام».
ويتّضح، أخيراً، أن ثمّة فعلاً تراكمياً دولياً (نخبوياً وإعلامياً) في نقْد سياسات نظام آبي أحمد وتفكيكها على نحو غير مسبوق في الآونة الأخيرة. وهو ما عبّر عنه - مثلاً - مقال للبروفيسور الإثيوبي، تيفيري ميرجو، نُشر في مجلّة «فورين بوليسي»، الشهر الماضي، ردّاً على أفكار كابلان «المشوّشة» وخطابه «الاستعماري»، بحسب ميرجو، الذي دفع إلى الواجهة مجدّداً حقيقة أن توسّع الدولة الإثيوبية في القرن التاسع عشر، كان استعماراً داخلياً جليّاً، ولعلّه من أوضح الأمثلة وأشملها في تاريخ القارة الأفريقية (راجع: «سياقات الاستعمار الداخلي في أفريقيا»، «الأخبار»، 1 أيار 2020) في هذا السياق. ومن ثم، فإن جهود آبي أحمد الحالية، تسير بناءً على خلاصات ميرجو، عكس الحلول المنطقية لأزمة الدولة الإثيوبية واستمرارها ككيان سياسي.
تظلّ شخصية آبي أحمد مثالاً لقائد أفريقي يتمثّل مشروعات الحداثة وتطوير بلاده بشكل مبالغ في سطحيته، ويقرأ التاريخ من منظور إثني عفا عليه الزمن، ويجنح في واقع الأمر إلى اتباع سياسات انتقامية من كلّ معارضيه أو حتى ممَّن رفضوا الإيمان «بعبقريّته وتفرّده»، ويتمتّع بقدر مفرط من الحساسية إزاء أيّ انتقادات، حتى من أقرب المخلصين له ولبلاده. وبعدما هلّل العالم، بمَن فيه محلّلون أفارقة وعرب كثر، لصاحب جائزة «نوبل للسلام» ورائد تجديد الديمقراطية الأفريقية، بدا أنه ملك عارٍ تماماً، ذو أفق سياسي أكثر استبداداً ربّما من الإمبراطور هيلاسيلاسي نفسه، ومن دون مقدرات حقيقية على قيادة بلاده أو الخروج عن توجيهات من صعّدوه - في أمر دُبّر بِلَيل - رئيساً للوزراء.