تميّزت الانتخابات الإقليمية في حزيران الماضي، بنسبة امتناع ملحوظة عن التصويت بلغت 65.5%
يسارٌ مفكّك وضعيف
في الخامس من تموز الماضي، أجرى «المعهد الفرنسي للرأي العام» (IFOP-Fiducial) دراسة استقصائية لمعرفة نوايا التصويت في الانتخابات الفرنسية المقبلة، أظهرت تقدّم كلّ مِن ماكرون ولوبن، التي كلّما بيّنت نفسها أقوى، مضى ماكرون في تقديم نفسه على أنه «الدرع» لإنقاذ «الجمهورية». إلّا أن الرئيس الذي أُعيد انتخابه في "Haut de France"، كزافييه برتراند، انتقل إلى المرتبة الثالثة قبل أقلّ من تسعة أشهر على الانتخابات، بعد حصوله عل 18% من نوايا التصويت. وبحسب الدراسة، فإن لوبن ستخسر في جولة الإعادة أمام ماكرون وبرتراند. وفي حالة التقاء الرجلَيْن في الجولة الثانية، سيتغلّب برتراند على ماكرون (52% مقابل 48%). من ناحية أخرى، يعكس استطلاع المعهد الفرنسي ضعف اليسار؛ إذ إن حظوظ مرشّحيه في أيّ من التشكيلات التي تمّ اختبارها، لم تتجاوز الـ10% من نوايا التصويت. ومع ذلك، تُسجّل نقطة تحوّل مع تراجع زعيم حزب «فرنسا الأبيّة» جان لوك ميلانشون (7%، -4 نقاط)، يمكن أن تعود بالنفع جزئياً على الأمين العام لـ«الحزب الشيوعي» الفرنسي، فابيان روسيل. ومن الآن فصاعداً، أصبح ميلانشون، آن هيدالغو، ويانيك جادو، على مستوى مماثل من نوايا التصويت. ويكشف المرشّح يانيك جادو، في مقالة له في «لوموند» نُشرت في نيسان الماضي، عن مواقفه العدائية في السياسة الخارجية، واليمينية أكثر من مواقف ماكرون، إذ يَعتبر أن «العدوانية المتزايدة» من جانب «الأنظمة الاستبدادية» في الصين وروسيا وتركيا «يجب أن تصبح أحد المواضيع الرئيسة للانتخابات الرئاسية لعام 2022»، داعياً أوروبا إلى تشكيل «جبهة موحّدة» للعمل ضدّ هذه «الأنظمة الاستفزازية» التي يحمّلها مسؤولية «نشر الأخبار الكاذبة»، و«زعزعة استقرار» الجوار الأوروبي، والهجمات الإلكترونية.
مسألةٌ ديناميكية
تميّزت الانتخابات الإقليمية، في حزيران الماضي، بنسبة امتناع ملحوظة عن التصويت بلغت 65.5%، وذلك لأسباب كثيرة، منها: غياب الثقة بالحياة السياسية، وعدم الاهتمام، فضلاً عن الاقتناع بأن الصوت الواحد لا يغيّر أيّ شيء، وفق استطلاع للرأي أجراه «إيبسوس/ سوبرا ستريا». معدّل الامتناع هذا، ليس محصوراً بالانتخابات الإقليمية فحسب، بل إنه يعكس ظاهرة مستمرّة في المجتمعات الليبرالية المتّسمة بتفاقم النزعة الفردية، وفرط الاستهلاك، وغياب التسييس. على أيّ حال، لا يمكن التنبّؤ بنتائج الانتخابات الرئاسية من الآن، فالتصويت الفردي الذي حلّ محل التصويت الطبقي، على مدى العقود الماضية، يزيد من احتمالات التقلُّب؛ والانتخابات، كما يقول المستشار الاستراتيجي، ماتياس أولمان، «مسألة ديناميكية أكثر منها مسألة حسابات».
منذ حملة الانتخابات الرئاسية في عام 2017 ، بدا أن الحزبَين التقليديَّين، أي الجمهوريين والاشتراكيين، أو اليمين واليسار، يفقدان زخمهما الانتخابي. ومنذ ذلك الحين، تُسجّل الحركات الجديدة نجاحاً انتخابياً نسبياً، كما هو حال حزب «الجمهورية إلى الأمام» (La Republique en Marche) الذي أسّسه ماكرون، أو «فرنسا الأبيّة» (La France Insoumise) بزعامة ميلانشون، أو النسخة الجديدة لحزب «الجبهة الوطنية» المتطرّف التي تحاول الظهور بمظهر «أقلّ تطرفاً»، أي «التجمّع الوطني» بزعامة لوبن. ويأمل نصف الفرنسيين أن يشهدوا على نشوء تيار سياسي جديد أو شخصية سياسية جديدة في رئاسيات 2022. وإذا كان من المفترض أن تعبّر الانقسامات الحزبية عن تلك الاجتماعية، إلا أنها في فرنسا أصبحت مصطنعة بشكل متزايد، بما يجعلها بعيدة عن تمثيل الخصومات الاجتماعية، ويَنتج منه بالتالي ارتفاع معدّل الامتناع عن التصويت، وفقدان الثقة في الحزبَين التقليديَّين، بسبب اعتماد اليسار سياسات يمينية، واليمين سياسات يسارية نسبياً. وفي فرنسا، كما في غيرها من الدول، تضع العولمة النيوليبرالية، الديمقراطيات الليبرالية في أزمة؛ فـ«الجمهورية» تتخبّط، فيما تصبح الديمقراطية «غير ليبرالية».