لم يكن للتقارب الأميركي - الصيني الذي افتتحه ريتشارد نيكسون، قبل نصف قرن، أن يصمد طويلاً في ظلّ التحوّلات التي طرأت على «النظام الدولي»، وانتقال الصين من موقع الدولة التي «لا تشكِّل أيّ تهديد للمصالح الأميركية»، إلى «المنافس الاستراتيجي» الأوّل الذي بات صعوده يمثّل «خطراً» على الكتلة الغربية، وما يعنيه ذلك من حاجة إلى رصّ الصفوف وتعزيز التحالفات خصوصاً على ضفتَي الأطلسي. لكنْ دون العشم الأميركي، في ظلّ الإدارة الجديدة، انقسام أوروبي واضح يجلّيه مسار العلاقات الشائك، وما أرخته سياسة «أميركا أوّلاً» من ثقلٍ على التحالفات التقليدية، فضلاً عن المصالح الأوروبية الكامنة في الحفاظ على علاقات متوازنة مع «الشريك» الصيني، الذي تجمعها معه مصالح اقتصادية عابرة للانقسامات
خلال زيارته الأخيرة إلى العاصمة الأميركية، واشنطن، حدَّد وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، موقع الصين بالنسبة إلى العالم الغربي، باعتبارها «شريكاً» ضرورياً و«خصماً» له في الوقت ذاته، قائلاً: «ربّما أبطأنا في استيعاب هذا التطوّر». ولدى سؤاله عن تصريح الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي تحدّث فيه عن «الموت الدماغي» لـ«حلف شمال الأطلسي»، أوضح لودريان أنه خلال ولاية الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، سرى «نوع من الشكّ المتبادل حول صلابة الروابط وثبات الالتزامات»، لكن وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض «بدّل المعطيات»، حتى أن قمّة بروكسل، الشهر الماضي، جاءت «لتنعش التحالف عبر ضفتَي الأطلسي»، على حدّ وصفه. لا تحيد تصريحات الوزير الفرنسي عن تلك التي أدلى بها ماكرون في قمّة «الأطلسي» الأخيرة حين سارع إلى التعليق على البيان الختامي - أُدرجت فيه الصين باعتبارها باتت «تشكّل خطراً أمنياً... وتحدّياً للنظام الدولي»، بما يتماشى مع النهج الذي يتبعه البيت الأبيض - بالقول إنه «ليس للصين علاقة تُذكر بالحلف؛ لذا، من المهمّ ألّا ننحاز في علاقاتنا».

شبح ترامب
اختار الرئيس الأميركي أوروبا لتكون وجهته الخارجية الأولى، في محاولة منه لرأب الصدع في العلاقات التي تدهورت في عهد الإدارة السابقة. لكن جُلّ اهتمام بايدن بدا منصبّاً على فكرة تشكيل جبهة موحّدة تجمع الحلفاء الغربيين في مواجهة الصين، كونها تمثّل «تهديداً» للأمن القومي الأميركي. استعجال الرئيس الأميركي لترميم ما «هُشِّم» إبان ولاية ترامب، يجيء في ظلّ «تخوّف» الأوروبيين، وخصوصاً منهم الألمان، من «شبح ترامب الذي لا يزال يلوح في الأفق عبر الأطلسي»، وفق ما يرى مايكل هيرش، في مقالة لمجلة «فورين بوليسي» الأميركية. ويقول الكاتب إن الأوروبيين الذين «صدمهم ترامب، باتوا يولون اهتماماً أكبر لمشاكل واشنطن الداخلية، أكثر من اهتمامهم بقضايا الأطلسي التقليدية». وفي مقالته التي نُشرت عشية اللقاء الذي جمع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بالرئيس الأميركي، الأسبوع الماضي، نقل هيرش عن تشارلز كوبشان، المتخصّص في العلاقات عبر الأطلسي في جامعة «جورج تاون»، تساؤله: «إلى متى ستستمّر هذه الصداقة الجديدة؟ ومَن سيأتي بعد بايدن؟»، قبل أن يضيف أن الأهمّ من ذلك هو «كيف سيبدو التحالف الأميركي ـــ الأوروبي في حقبة ما بعد ميركل» التي تغادر منصبها بداية الخريف. وعلى رغم عشم أوروبا بعودة «الحياة الطبيعية» إلى علاقاتها مع الولايات المتحدة، يتساءل الكاتب عمّا «إذا كان 74 مليون شخص ممَّن صوتوا لمصلحة ترامب (في الانتخابات الرئاسية الأخيرة) سيُوافقون على ذلك؟»، خصوصاً في ظلّ هيمنة هذا الأخير على الجناح الأكثر تطرُّفاً في الحزب الجمهوري. ويلفت هيرش إلى أنه «يصعب على الأوروبيين تجاهل حقيقة أن عداء بايدن للصين هو امتداد لرؤية ترامب»، مع إشارته إلى النهج التي تبنّته ميركل، بعدما عملت جاهدة على تطوير علاقات أفضل مع بكين، ودفْعِها الدول الأعضاء في الاتحاد إلى الموافقة على توقيع «اتفاقية الاستثمار» (CIA) مع البلد الآسيوي، والذي تساوق مع إعلان فوز بايدن بالرئاسة.
جاءت جولة بايدن الأخيرة لتجلّي عُمق انقسام دول الاتحاد، وفقدانها لرؤية سياسية موحّدة حيال بكين


على هذه الخلفية، يرى الكاتب أن المستشارة الألمانية ذهبت إلى واشنطن حاملةً رسالتين: الأولى مفادها أن أوروبا «لا تريد حرباً باردة جديدة»؛ والثانية أن الاتحاد «يريد الفصل... إذا أراد الأميركيون أن يسلكوا طريقاً عدائياً حيال الصين، فنحن لن نسلكها». هذا الموقف يعود، بالدرجة الأولى، إلى أن الصين باتت تحتلّ مركز الشريك التجاري الأوّل لألمانيا ومن ثم بروكسل، على مدى السنوات الخمس الماضية، وأن «أوروبا ميركل» لا تريد الوقوع في قلب الصراع القائم بين بكين وواشنطن، نظراً إلى المصالح التي تجمعها بالطرفين. بل على العكس، يسعى الأوروبيون إلى إنشاء علاقات متوازنة مع هاتين القوّتين، وهو الأمر الذي أدركه الأميركيون، وفق الباحثة في مركز «الأمن الأميركي الجديد»، راشيل ريزو، التي تقول إن «أميركا بدأت بالتصالح أخيراً مع هذا الواقع»، مشيرة إلى أن «إدارة بايدن أوضحت أنها لا تطلب من ألمانيا (أو أوروبا) اختيار أحد الجانبين».

«أوروبا بِلا رؤية»
ليس خافياً غياب استراتيجية أوروبية واضحة تجاه الصين؛ إذ جاءت جولة بايدن الأخيرة لتجلّي عُمق انقسام دول الاتحاد، وفِقدانها لرؤية سياسية موحّدة حيال بكين. لكن أوروبا غير الراضية عن عدم مواجهة الصين، كانت قد عمدت قبل سنتَين، إلى وضع استراتيجية جديدة للتعامل مع بكين بوصفها «المنافس للنظام (الليبرالي)»، كما استخدمت عبارة «شريك محتمل ومنافس»، لدى إشارتها إلى الصين في وثيقة السياسية التأسيسية لعام 2019، في صيغة تختلف تمام الاختلاف عن تلك المستخدمة في واشنطن: «المنافس الاستراتيجي». فالتكتّل كان يأمل فصل الخلافات السياسية عن الروابط الاقتصادية مع الصين، لكن الولايات المتحدة تبدو متجهة إلى منافسة تنتهي غالباً إلى صراع، وهو ما لا يتناسب مع التوجّهات الأوروبية. وعلى رغم أن الجهود التي يبذلها الاتحاد الأوروبي في صياغة سياسة جديدة تجاه الصين، تتناقض مع نهج بايدن الرامي إلى إحياء «الاستراتيجية الكلاسيكية» في مواجهة العملاق الآسيوي، لا يمكن التغاضي عن واقع أن بروكسل أظهرت موقفاً أكثر تشدداً حيال بكين في الفترة ما بعد توقيع «اتفاقية الاستثمار»، فعمدت، في الأشهر الماضية، إلى فرض عقوبات على مسؤولين صينيين بسبب ضلوعهم في «انتهاكات حقوق الإنسان» في إقليم شينجيانغ. وفي أيار الماضي، أعلن الاتحاد الأوروبي وضع خطّة لخفض الاعتماد على صادرات بعض الدول، ومن بينها الصين. وفي الشهر ذاته، جُمّدت أيضاً آلية التصديق على «اتفاقية الاستثمار» بسبب معارضة البرلمان الأوروبي لتفعيلها، على اعتبار أنها تُعزِّز الاستثمارات الصينية في القارّة.
وسط هذه الضبابية، تبدو أوروبا عالقة في مأزقٍ بين القوّتين من جهة، وبين فِقدانها لاستراتيجية واضحة تجاه بكين من جهة ثانية. وللخروج منه، تحدّثت وسائل إعلام ألمانية عن ضرورة صعود الاتحاد كقطبٍ ثالث في وجه القطبَيْن الصيني والأميركي، وهو ما يُرتِّب على دوله الذهاب نحو مزيد من الاستقلالية. واعتمدت وسائل الإعلام في تحليلها هذا على دراسة لمؤسسة «بروغنوز» السويسرية للبحوث والاستشارات، والتي دقّ فيها الباحثون ناقوس الخطر من المدّ الصيني الذي يُنذر بـ«فقدان الهيمنة الاقتصادية الأميركية والغربية على العالم بحلول عام 2040». هذه التحوّلات، تحتِّم على بروكسل اختيار أحد المعسكرَيْن. فإذا ما قرّرت الانحياز إلى بكين على حساب علاقتها مع واشنطن، فإن ذلك سيقلّص صادراتها بنسبة 22%؛ أما إذا اختارت التكتّل مع الأخيرة، ستتراجع صادراتها بنسبة 18%. لهذا، يبدو خيار صعود أوروبا كقطبٍ ثالث أكثر منطقية، كونه سيضمن الازدهار والاستقرار لجميع دولها، فضلاً عن كونه سيؤدّي إلى علاقات أوروبية ـــ دولية أكثر توازناً في المستقبل، خصوصاً مع روسيا والدول النامية. لكن وجهة النظر هذه تبقى رهناً بسيناريو صعود القوّة الأوروبية، الذي لا توجد أيّ مؤشرات على تحقُّقه في المدى المنظور.