لم تكنْ تركيا لتصبح ما أصبحت عليه لولا محاولة الانقلاب الفاشلة التي تمرُّ ذكراها الخامسة، اليوم، وسط تحوُّلات، على المستويَين الداخلي والخارجي، تشهدها البلاد التي لا يفتأ رئيسها، رجب طيب أردوغان، يعزِّز سلطاته، تحت عنوان الانقلاب الذي وصفه يوماً بـ»اللطف الإلهي»، لِمَا حَمَله من «خيرٍ» له. وإنْ كان ما جرى، في حينه، قد فتح جرحاً عميقاً في العلاقات التركية - الأميركية، في موازاة تقارب غير مسبوق في العلاقات مع روسيا أحدث تبدُّلات في موازين القوى في المنطقة، تبدو «تركيا الجديدة» أكثر استعداداً لتغيير ولاءاتها وفتح صفحة جديدة مع الولايات المتحدة، بما يتناسب مع تطلُّعات نظامها العازم على البقاء في السلطة طالما «كُتب» له ذلك
تمرُّ اليوم «الخمسية الأولى» لمحاولة الانقلاب العسكري التي نفّذتها مجموعة من العسكريين الأتراك لخلع الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في الـ15 من تموز 2016. ومع اللحظات الأولى لفشل الانقلاب، سارعت أنقرة إلى اتهام جماعة فتح الله غولن بالوقوف وراءه، بدعمٍ من الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية والخليجية. وبمعزل عن الروايات غير المؤكدة التي تشير إلى دور روسي، وبدرجة أقلّ إيراني، في إفشال المحاولة الانقلابية، فإن ما جرى فتح جرحاً عميقاً في العلاقات التركية - الأميركية. فهو يمثّل المسعى الدموي الأول للجيش للانقضاض على السلطة منذ الانقلاب الأكثر دموية في التاريخ التركي الحديث في عام 1980، إذا ما جرى تجاوز «الانقلاب الأبيض» الذي نفّذته الدولة العميقة في عام 1997، لإطاحة رئيس الحكومة نجم الدين أربكان.
اليوم، وبعد خمس سنوات من الحدث، تبدو تركيا في مكان آخر. فالعلاقات بينها وبين روسيا شهدت، بعد الانقلاب، طفرةً غير مسبوقة نتجت عنها تفاهمات غيَّرت في موازين القوى، سواء بالنسبة إلى أنقرة أم موسكو أم واشنطن، وأدخلت المنطقة في مرحلة جديدة وتعقيدات إضافية. من جهته، استفاد الرئيس التركي بقوّة من فشل المحاولة، ويكفي أنه وصفها بأنها «لطف إلهي». فعلى الصعيد الداخلي، تمكّن إردوغان، خلال سنوات قليلة، من تصفية التابعين لخصمه اللدود غولن وطردِهم من وظائفهم في كلّ المؤسسات أو اعتقالهم، وعددهم عشرات الآلاف، ولا سيما في المؤسسة العسكرية. حملةٌ أتاحت لإردوغان أن يصبح النافذ الأوحد في السلطة، وفتحت الباب أمامه، بعد سنة، ليُدخِل تعديلاً جذرياً على النظام السياسي في البلاد، بإلغائه النظام البرلماني وموقع رئاسة الحكومة، ليحلّ محلّهما نظام رئاسي يحصر معظم السلطات بيد رئيس الجمهورية، ويمنحه صلاحيات واسعة جداً، على رأسها وضْع اليد على المؤسسة العسكرية، ونقل الثقل فيها من رئاسة الأركان إلى وزارة الدفاع. تعديلات أحالها إردوغان إلى الاستفتاء الشعبي في عام 2017، لتُجرى في العام التالي انتخابات رئاسية ونيابية مبكرة مكّنته من الفوز بالمنصب الواسع الصلاحيات. مثل هذا النظام فتح الباب أمام اصطفافات عمودية في المجتمع، بحيث انقسمت تركيا إلى جبهتَين رئيستَين، ولم يبقَ للأحزاب خارجهما مكان في اللعبة السياسية: تكتّل للنزعات الإسلامية والقومية المتشدّدة، وآخر للنزعات العلمانية واليسارية والكردية. ويذهب المحلِّل البارز، المقرّب من إردوغان، برهان الدين دوران، إلى القول إن «إفشال المحاولة كان وساماً يوضع على صدر الديموقراطية التركية».
شجّع احتلال أجزاء من سوريا، إردوغان، على التوسُّع في مناطق أخرى


على الصعيد الخارجي، أدّت محاولة الانقلاب إلى تقارب تركي - روسي كبير، لم يكن لأنقرة أن تنجح من دونه في النفاذ من بين سطور هذه التفاهمات مع موسكو، والقيام بثلاث عمليات عسكرية كبيرة في سوريا، هي: «درع الفرات» و»غصن الزيتون»، و»نبع السلام»، التي أسفرت عن احتلال عسكري تركي مباشر لشمال غرب سوريا وجزء من شمال شرقها، مع سيطرة كاملة غير مباشرة على محافظة إدلب. وشجّع احتلال أجزاء من سوريا، إردوغان، على التوسُّع في مناطق أخرى، من مثل: ليبيا والعراق والقوقاز وشرق المتوسط، وحتى في البحر الأسود عبر دعم أوكرانيا. ويظهر في بعض هذه التطوّرات ما هو مناقض تماماً للمصالح الروسية. وعلى رغم أن محاولة الانقلاب باعدت بين أنقرة وواشنطن وزادت من عدد الدول المتخاصمة مع تركيا، لكن تبدُّل سياسات إردوغان بعد فوز جو بايدن بالرئاسة الأميركية، أنتج تفاهمات مع البيت الأبيض تؤمِّن مصالح الولايات المتحدة من جهة، وتخفّف الضغوط الأميركية على إردوغان من جهة ثانية. مع هذا، يرى برهان الدين دوران في المحاولة الانقلابية عملاً من تدبير دول خارجية كان الهدف منه وقف صعود تركيا الذي بدأ بعد عام 2013. وبحسبه، فإن توسُّع تركيا في سوريا والعراق والقوقاز وليبيا وشرق المتوسط، ما هو إلّا انعكاس لهذا الصعود الذي يريد البعض وقفه، حتى إن «إفشال الانقلاب هو إفشال لمنع تحويل تركيا إلى سوريا ثانية». ويقول دوران إن القوى الخارجية، ومعها ذراعها الداخلية المتمثّلة في جماعة فتح الله غولن، تنتظر عام 2023 لتنتقم من إردوغان وتوقِف التقدُّم التركي.
ومع مرور خمس سنوات على المحاولة الانقلابية، تعيش تركيا أزمات اقتصادية صعبة؛ فالدخل الفردي تراجع متوسطه من 12 إلى 8 آلاف دولار، بعدما كان إردوغان وعد برفعه إلى 25 ألفاً في عام 2023. وبعدما وعد بأن يصبح الاقتصاد التركي من ضمن الاقتصادات العشرة الأوائل في العالم، بالكاد وجدت تركيا نفسها هذا العام في المركز العشرين، مُتراجعة عدّة مراتب. أمّا خارجياً، فتدور في حلقة توتّرات مع معظم دول الجوار. أداءٌ أثّر على موقع الأحزاب السياسية لدى الرأي العام. فقد أشارت مؤسسة «متروبول» لاستطلاعات الرأي إلى أن 70% سيؤيّدون الأحزاب السابقة نفسها، بينما سيؤيد الباقون أحزاباً مختلفة أو أنهم سيمتنعون عن التصويت. ويبرز حزب «الحركة القومية»، حليف إردوغان في العمل السياسي، خاسراً أوّل، بعدما أعلن 51% من أنصاره أنهم لن يصوّتوا له في الانتخابات المقبلة. كما أعلن 20% من أنصار «حزب الشعب الجمهوري» المعارض أنهم لن يصوّتوا له في المرّة القادمة. وهناك 11% قرّروا عدم التصويت لـ»العدالة والتنمية». والأهمّ هنا، أن نسبة تراجع الأخير تُعتبر مهمّة لكون الحزب يربح الانتخابات بفارق واحد إلى اثنين في المئة. وإذا أضفنا إلى ذلك أن شريكه سيخسر افتراضياً نصف أصواته، فإن الكارثة ستقع على «تحالف الجمهور» بين حزبَي «العدالة والتنمية» و»الحركة القومية». وفي استطلاع آخر لمركز الأبحاث الاجتماعية، يتبيّن أن الحزب الحاكم سينال 29%، من دون أصوات غير المقرّرين بعد، فيما سيحصل شريكه «الحركة القومية» على 7% من الأصوات فقط، وسينال «الشعب الجمهوري» 22%، و»الحزب الجيّد» 11%، و9% لـ»حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، أي ما مجموعه 42%، في مقابل 36% لـ»تحالف الجمهور». وقال 47% من المستطلَعة آراؤهم إنهم سيمنحون أصواتهم لمرشَّح المعارضة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فيما أعلن 36% أنهم سيصوّتون لإردوغان، في تراجع نسبته أربع نقاط عمَّا كان عليه قبل أربعة أشهر. وهو ما يعيده محلّلون إلى تردّي الوضع الاقتصادي، كما إلى ما كشفته اعترافات رجل المافيا، سادات بيكر، عن علاقات مسؤولين في حزب «العدالة والتنمية» بالمافيا، وتورّطهم في قضايا فساد، وعجز المسؤولين عن الإجابة الواضحة عن الأسئلة التي طرحها بيكر أمام الرأي العام.