تترتَّب على حاجة الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، للعبور نحو ولايةٍ رئاسية جديدة، سياساتٌ مختلفة في الداخل حيث تُلاحق الأزمات موقعه، خصوصاً في ظلّ انخفاض شعبيّته، وفي الخارج، حيث يسعى إلى الحدّ من العداوات، واسترضاء الحلفاء، وعلى رأسهم الولايات المتحدة التي أَوكلت إلى نظيرتها «الأطلسية»، مهمَّة رعاية مصالحها في أفغانستان مِن بَعد سحب قوّاتها من هذا البلد. وبدت لافتةً مسارعة تركيا إلى قبول وظيفتها الجديدة، في ما عدَّه مراقبون تنازُلاً شبه مجاني لأميركا، يعرّض للخطر حياة القوات التركية، وإن كان يمنح إردوغان متنفَّساً لتخفيف الضغوط عليه، فضلاً عن فتح خطّ مباشر بينه وبين نظيره الأميركي، وإرجاء البحث في قضية صواريخ «إس-400»
منذ اللقاء الذي جمع الرئيسَيْن التركي رجب طيب إردوغان، والأميركي جو بايدن، منتصف الشهر الماضي، في بروكسل، ظهرت على بساط البحث مسألةُ إرسال تركيا قوّات لها إلى أفغانستان - بعد استكمال «حلف شمال الأطلسي» انسحابه من هذا البلد - بمهمّة واضحة ومحدّدة: حماية مطار كابول. ونظراً إلى مباشرة تركيا سياسات التهدئة والتواصل مع خصومها، مِن مِثل مصر واليونان، بدا الخبر مفاجئاً. على أن تلك السياسات جاءت نتيجة وصول خصم لدود لإردوغان إلى البيت الأبيض، وهو ما انعكس بخطوات من جانب أنقرة عدَّها مراقبون بمثابة تنازلات لواشنطن ما كان يمكن أن تتمّ لولا الوضع الصعب للرئيس التركي في الداخل، بينما يتحضّر لخوض انتخابات الرئاسة في 2023.
تشير المعلومات إلى أن بايدن هو مَن اقترح على إردوغان فكرة حماية مطار كابول، ليسارع الأخير إلى قبول الطلب الأميركي، فيما لم تُثَر إعلامياً أيّ معلومات عن الموضوعات الخلافية بين البلدين، على رغم كثرتها، ولا سيما صفقة الصواريخ الروسية «إس - 400»، والدعم الأميركي للقوات الكردية في شرق سوريا، واعتراف الولايات المتحدة بالإبادة الأرمينية، ووضع الداعية فتح الله غولن، وغيرها الكثير. وعلى هذه الخلفية، وصل وفد عسكري أميركي إلى أنقرة، ثمّ أجرى وزير الدفاع التركي، خلوصي آقار، اتصالاً، الجمعة الماضي، بنظيره الأميركي لويد أوستن. وفي وقت يحاول فيه بايدن أن يوقف إزهاق أرواح جنوده في الحروب الخارجية تدريجياً، بدت تركيا الوحيدة المستعدّة للقيام بمهامّ أمنية في العاصمة كابول. في المقابل، تدور نقاشات في الداخل التركي عن السبب الذي يدفع أنقرة إلى القيام بمهمّة ملأى بالمخاطر، خصوصاً أن حركة «طالبان» أعلنت رفضها وجود أيّ قوات أجنبية أو أطلسية على الأراضي الأفغانية، وهي التي تمدَّدت لتسيطر على نحو 85% من مساحة البلاد، ما يعني أن تركيا ستذهب لمساندة حكومة رسمية، لكنها لا تشرف سوى على بقعة صغيرة من البلاد، وربّما عملياً في كابول فقط. حتى الاستخبارات الأميركية توقّعت أن تنهار الحكومة الأفغانية في كابول خلال وقت قصير جداً من بدء انسحاب القوات الأطلسية، وفي أحسن الأحوال، أن تندلع حرب أهلية في هذا البلد.
وفي ظلّ الإصرار التركي على الذهاب إلى كابول، يعتبر نامق طان الذي شغل منصب السفير لدى إسرائيل بين عامَي 2007 و2009، ولدى الولايات المتحدة بين عامَي 2010 و2014، إن السبب الأوّل الذي يدفع تركيا إلى اتّخاذ هذه الخطوة، هو رغبة إردوغان في استمرار التواصل مع بايدن في المرحلة المقبلة. ولذلك، فإنّ وجود القوات التركية في كابول يجعل الاتصالات متواصلة بين البلدين وبصورة غير مباشرة بين الرئيسين، وتتخفّف تركيا بواسطته، ولو قليلاً، من الضغوط الأميركية عليها. أمّا السبب الثاني، فهو أن الاقتصاد التركي يمكن أن يتحسّن مع وصول مساعدات مادية إلى أفغانستان، وهو مطلب تركي في ظلّ ازدياد البطالة واستنزاف احتياطي العملة الصعبة. ويرى طان أن الولايات المتحدة لن تتردّد في تلبية الفاتورة التركية، ولو جزئياً. لكن إرسال قوات تركية إلى كابول يحتمل مخاطر عالية؛ إذ يلفت طان إلى أن المخاطرة الأولى تتعلّق باحتمال خسارة تركيا صديقاً تاريخياً لها، فالحكومة الأفغانية - حتى قبل إعلان أتاتورك الجمهوية بشكل رسمي عام 1923 - اعترفت بحركة أتاتورك، وكانت أوّل دولة ترسل سفيراً لها إلى أنقرة. والمخاطرة الثانية هي أن وجود تركيا في بلد لم يشكّل يوماً تهديداً لها، سوف يعرّض للخطر حياة الجنود الأتراك. لكن إصرار تركيا يوجِب على البرلمان التركي الإجازة بإرسال القوات إلى كابول استناداً إلى قرار دولي صادر عن مجلس الأمن.
تعوّل الحكومات الغربية على دور تركي في حماية مطار كابول كونه النافذة الوحيدة لأفغانستان على العالم


وما يُعقّد مهمّة القوات التركية المقبلة، أن الدولتَيْن المعنيّتَيْن أكثر بأفغانستان، وهما إيران وروسيا، قد دخلتا على الخطّ، وأظهرتا أنهما الأكثر قدرة على أن يكون لهما الدور الأساسي في المسألة الأفغانية بعد الانسحاب الأميركي، مقارنة مع تركيا القادمة من بعيد. في يومَي 7 و 8 تموز، نجح وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، في جمع ممثّلي حكومة كابول وحركة «طالبان» في طهران، فيما كانت هذه الأخيرة رفضت التوجّه إلى اسطنبول للاجتماع بممثّلي الحكومة الأفغانية في 24 نيسان الماضي. ومن طهران، اتفق الطرفان على عدم حلّ المشكلات من طريق الحرب، والتوافق على إجراء المزيد من المشاورات. ولا شكّ في أن الدور الإيراني لا ينبع من «صداقة» بين الدولتَيْن، بقدر ما يعكس محاولة لمنْع حدوث أزمة لاجئين جديدة خصوصاً أن هناك ثلاثة ملايين لاجئ أفغاني في إيران، ومنْع التوتّرات الأمنية وتعريض المصالح الاقتصادية للخطر. فماضي العلاقات بين إيران و«طالبان» يشهد على مجازر بحقّ الشيعة في أفغانستان، وقتْل دبلوماسيين إيرانيين، لكن طهران ربّما تعلّمت من دروس الماضي، أن أفضل وسيلة لحماية 945 كيلومتراً من الحدود المشتركة مع أفغانستان، يكمن في إقامة علاقات جيدة مع الحركة. وهو ما تُرجم في زيارات سابقة قام بها الملا عبد الغني برادر، أحد زعماء الحركة، إلى العاصمة الإيرانية لبحث مسائل الأمن الحدودي. كذلك، تلعب موسكو دوراً مهمّاً على خطّ الأزمة الأفغانية، إذ استقبلت، في الوقت ذاته، وفداً من الحركة التقى بمسؤولين في وزارة الخارجية الروسية، فيما أعلنت «طالبان» موافقتها على عدم انتهاك حدود دول آسيا الوسطى، وعدم التعرُّض للبعثات الدبلوماسية في كابول ومدن أخرى، والاستعداد لضمان السلام من خلال المباحثات، والعمل على محاربة تنظيم «داعش» ومنْع إنتاج المخدرات.
وفي هذا الإطار، يحذّر الجنرال المتقاعد، تونجير كيلينتش، تركيا، من عواقب الذهاب إلى أفغانستان. ويقول إنه «ما دامت تركيا عضواً في الناتو، فإنها لن تكون مستقلّة في السياسة الخارجية»، معتبراً أن «الناتو» «تَحوّل، منذ نهاية الحرب الباردة، إلى أداة للهيمنة الأميركية في العالم، ولا يمكن الحديث عن صداقات بين دوله، فالولايات المتحدة نفسها لم تكن يوماً صديقة لتركيا، بل كانت تحمي مصالحها». ويذكّر كيليتش: «ها هي أميركا تحمي فتح الله غولن، وتدعم القوات الكردية في سوريا، وتعترف بالإبادة الأرمينية. وفتحُ صفحة بيضاء جديدة مع العدوّ، يعني عسكرياً رفع راية الاستسلام. وفي هذه الظروف، فإن طلب إردوغان الدعم من الولايات المتحدة في أفغانستان، يعني إدخال البلد في مخاطر كبيرة». وتعوّل الحكومات الغربية على دور تركي في حماية مطار كابول كونه النافذة الوحيدة لأفغانستان على العالم. ويعكس وزير الدفاع التركي أهمية المطار بقوله: «في حال توقُّف مطار كابول عن العمل، فإن السفارات ستنسحب. وفي هذا الوضع، ستصبح أفغانستان دولة معزولة وستكون علاقاتها الدولية موضع قلق كبير».
وفي انتظار إتمام الانسحاب الأميركي والأجنبي من أفغانستان نهاية آب، لا يزال هناك متّسع من الوقت لاتخاذ تركيا قرارها النهائي، علماً أنه لأنقرة ضمن قوات «الأطلسي» حوالى 500 جندي. ويرى الأستاذ في جامعة مرسين، كاآن آتاتش، أن أمام تركيا وظيفتين مهمّتين: الأولى تأمين استمرار عمل المطار، والثانية حماية وصول البعثات الأجنبية في كابول إلى المطار. ويتساءل: «ماذا سيفعل الأتراك في حال تعرّضهم لهجوم من طالبان، وماذا سيفعلون في حال اضطرارهم لإخلاء المطار، وماذا سيكون دور الجنود الأتراك في حال تعرُّض إحدى السفارات لعملية أمنية معادية؟». بحسب الخبير الأفغاني في الشأن الأمني والمستشار سابقاً في «الناتو»، أسد الله أوغوز، فإن المطار يقع في قلب كابول، وإذا لم تتمّ حماية كلّ المدينة، فالمطار عرضة للمخاطر ولا تمكن حمايته. ويشير إلى أن مشاعر التقارب بين الشعبَيْن التركي والأفغاني موجودة، ولكن إذا لم تَنَل تركيا دعم حركة «طالبان»، فلا يمكنها القيام بأيّ مهام أمنية. وهنا، يقول إردوغان إنهم سيعملون على التعاون مع باكستان والمجر في أفغانستان، فيما يعتبر أوغوز أن استمرار تركيا بعد «الأطلسي» في أفغانستان، سيزعج روسيا والصين، ولكن يمكن السيطرة على مثل هذه الخلافات. وربّما تتمكن أنقرة من عقد تفاهمات في أفغانستان على غرار تلك التي في سوريا. ويعرب أوغوز عن اعتقاده بأن «محاربة أنقرة للجماعات الإرهابية في أفغانستان، تُكسبها ميزة عالمية وغربية تحديداً، ووجودها في أفغانستان لن ينشأ من فراغ، فهي موجودة في أكثر من عشرة بلدان، ولها استثمارات في هذا البلد الآسيوي بأكثر من مليار دولار». ويضيف أن تركيا تُراهن على علاقاتها الجيّدة مع باكستان لإقامة علاقات جيّدة مع «طالبان». لكنه يستدرك بأن «أفغانستان مستنقع، وأقلّ خطأ فيها سوف ينقلب كارثة على تركيا». ويشكّك الكاتب محمد علي غولر، بدوره، في فوائد تعاون أنقرة مع واشنطن بشأن أفغانستان، منبّهاً إلى أنه حتى لو كان الثمن «السكوت» عن صفقة صواريخ «إس-400»، فإن التعاون مع موسكو وطهران على غرار «مسار أستانا»، سيكون أكثر فائدة لتركيا من التعاون مع الولايات المتحدة، والذي سينعكس سلباً على العلاقات مع روسيا وإيران، وحتى الصين.