وضع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، أخيراً، الحجر الأساس لمشروع «قناة إسطنبول» «التاريخي»، والذي يُعدّ واحداً من أضخم المشاريع المحلّية ذات البعد العالمي. وكانت المفارقة أن إطلاق العمل بالمشروع لم يكن عبر شقّ جزءٍ من التربة، بل إقامة أوّل جسر هو «سازلي ديريه» - من مجموع ستّة - سيعبر فوق القناة المفترضة. ورأى الرئيس التركي أن من شأن المشروع الذي «ساهم في إرسائه كلّ من رؤساء الوزراء السابقين: عدنان مندريس، وسليمان ديميريل، وطورغوت أوزال، ونجم الدين أربكان، أن يفتح صفحة جديدة من تاريخ التنمية في البلاد»، قائلاً: «إنه مشروع إنقاذ إسطنبول». ولفت، في كلمته، إلى أن سعة القناة الجديدة ستبلغ 25 ألف سفينة عبور سنوياً، فيما تُبيِّن الأرقام أن أكثر من 78 ألف سفينة ستعبر، في عام 2050، مضيق البوسفور الحالي، بعدما كانت تعبره، في الثلاثينيات، حوالى ثلاثة آلاف سفينة في السنة. وتوقّع إردوغان أن ينتهي العمل في القناة خلال ستّ سنوات، بتكلفة كليّة قدّرها بـ15 مليار دولار، «ستُدفعُ كلّها من عائدات رسوم مرور البواخر والموانئ عبر المضائق»، وفق قوله.وتقع القناة إلى الغرب من مضيق البوسفور، وتصل بين البحرَين الأسود ومرمرة بطول 45 كيلومتراً وبعرض 278 متراً، فيما سيقارب عمقها 21 متراً، وسيكون المرور عبرها في الاتجاه الواحد لمدة 12 ساعة. وإلى الجسور الستّة، يضمّ المشروع ممرّين تحت الأرض للسكك الحديد، وآخرين للمترو. وتبلغ مساحة محيط القناة 26 ألف هكتار، تتّسع لنصف مليون شخص، على أن يوفّر المشروع، بعد اكتماله، فرص عمل لمليون ونصف مليون شخص، ويحوّل إسطنبول من شبه جزيرتَين إلى جزيرة وشبه جزيرتين. من جهتهم، يقدّر مخطّطو المشروع أن يصبح مقصداً سياحياً يزيد من مداخيل السياحة المرتفعة أصلاً، والتي تبلغ، حالياً، نحو 30 مليار دولار، في حين يُتوقّع أن يرتفع عدد السيّاح مع اكتمال «قناة إسطنبول» إلى 50 مليون سائح (مئة مليار دولار خلال خمس سنوات فقط). كما يمكن البواخر التي تبلغ حمولتها 300 ألف طن، أن تعبر القناة، بما يوفّر دخلاً سنوياً من عائدات رسوم المرور بحوالى 8 مليارات دولار. ويقدَّر أيضاً أن تساهم «قناة إسطنبول» بـ 12 مليار دولار في الناتج القومي غير الصافي، على أن يكون مجمل ما تنتجه 28 مليار دولار. وقد وُصف المشروع عندما تم الإعلان عنه، في 27 نيسان 2011، بأنه «مجنون»، لكنه لقي أصداءً مختلفة بين مؤيد ومعترض.
وفي هذا الإطار، يرى الخبير البيئي، ناجي غورو، في حوار مع صحيفة «قرار»، أن القناة لن تنقذ إسطنبول، كما يدّعي إردوغان، بل ستخلّف خراباً بيئياً لا يمكن إزالته، إذ هي «مشروع سياسي وليس بيئياً ولا تنموياً». ووفق الخبير، فإن المشروع يزيد من مخاطر حدوث زلازل في المنطقة، ولا سيما في الشقّ المفتوح من القناة على بحر مرمرة، متوقّعاً أن يزيد حجم الزلازل التي يمكن أن تصل قوّتها إلى 9 درجات، فيما ستحجز بعض السدود التي ستُقام - ولا سيما في المخرج الجنوبي من القناة - المياه الحلوة، وتقلّل من اختلاط مياه البحر بها، ما يزيد من ملوحتها، ويزيد تالياً من مساحة الأراضي التي ستموت في منطقة بحر مرمرة. ويقول غورغير إنه «بعد شقّ القناة، ستتدفّق من البحر الأسود إلى بحر مرمرة 5500 متر مكعّب من المياه القذرة في الثانية، إذ يُعدّ البحر الأسود من أوسخ البحار في العالم. وبفضل مياه نهر الدانوب الذي هو أيضاً من أكثر الأنهار قذارة، ستزداد نسبة القاذورات الناتجة من مخلّفات 48 مليون إنسان، التي ستأتي من الدانوب إلى البحر الأسود ومنها عبر القناة إلى مرمرة». ويجري العمل راهناً، بحسب الخبير، على محاولة تنظيف بحر مرمرة من طبقة الرغوة الوسخة التي تغطّي أجزاء كبيرة منه. ولكن مع فتح «قناة إسطنبول»، ستزيد كميّة الرغوة المتدفّقة من البحر الأسود إليه، ولن تقتصر على مضيق البوسفور.
ويواجه المشروع اعتراضات من منظّمات البيئة والمجتمع المدني، إذ ترى منسّقية إسطنبول حول المشروع، أن القناة ستقطع أنفاس إسطنبول. وإلى ذلك، هناك خلاف على تقدير الكلفة من 15 مليار دولار كما يقول إردوغان، إلى أربعين ملياراً وفق تقديرات أخرى. وفي ظلّ اعتراضات كلّ أحزاب المعارضة، ولا سيما «حزب الشعب الجمهوري»، يبرز رئيس الحكومة السابق، رئيس «حزب المستقبل» أحمد داود أوغلو، كأحد أبرز المعارضين للقناة. ويقول إن الذي وضع الحجر الأساس للقناة، «إنّما يرتكب جرماً واضحاً، وسيتعرّض للمساءلة»، خصوصاً أن «المشروع يخنق إسطنبول ويقطعها عن منطقة تراقيا ويحصرها في جزيرة صغيرة». وتبرز مسألة أخرى، وهي أن المشروع لا علاقة له ببلدية إسطنبول، وبالتالي يدعو إردوغان البلدية التي يسيطر عليها أكرم إمام أوغلو من «حزب الشعب الجمهوري»، إلى عدم التدخّل في الموضوع. ويبدي هذا الأخير معارضة شديدة للمشروع، ويقول إنه «ليس مشروع دولة بل مشروع انتخابي».
من المسائل قيد السجال، دور الرأسمال القطري في تمويل مشروع «قناة إسطنبول»


ويكتسب المشروع بعداً سياسياً واضحاً. فهو سيتيح مرور السفن بين البحر الأسود وبحر مرمرة، وتلك بالضبط وظيفة مضيق البوسفور. لكن الفارق أن البوسفور يُعدّ جزءاً من «اتفاقية مونترو» الدولية لعام 1936، والتي تنظّم المرور لكلّ الدول في مضيقَي البوسفور والدردنيل، وتضع قيوداً وضوابط وشروطاً على حركتها. ونظراً إلى كون الاتحاد السوفياتي، والآن روسيا، تقع ضمن دول البحر الأسود، وهي في صراع مع الغرب والولايات المتحدة، فإن «اتفاقية مونترو» تعتبر ذات أهمية بالغة لموسكو، لمنع دخول سفن عسكرية أميركية كبيرة إلى البحر الأسود أو مكوثها فترة أكثر من أسبوعين فيه. وبعد افتتاح القناة، ستزيد التساؤلات حول وظيفة القناة الجديدة، وإن كانت ستخضع لمعايير «مونترو» أم تكون في حلّ منها.
بالطبع، هناك العديد من الأسئلة التي قد لا تجد أجوبة حاسمة عنها الآن. لكن إردوغان يؤكد أن «قناة إسطنبول» هي قناة محلية، وليس لها طابع دولي، وعليه ستكون خارج «اتفاقية مونترو» وتحت الإشراف الكامل للحكومة التركية، وبالتالي لا خوف من إدخال تعديلات على الاتفاقية أو حدوث تغيير في التوازنات الدولية. إلّا أن معارضي القناة غير متيقّنين من ذلك، ويرَون أن القناة ستجلب الهمّ والمشكلات لتركيا على الصعيد الدولي. وقد ظهرت هذه المشكلة مع ما قيل عن ضغوط أميركية على تركيا لإدخال سفن حربية إلى البحر الأسود تخالف مواصفات «اتفاقية مونترو» في خضمّ التوتر الروسي - الأوكراني، وهو ما رفضته أنقرة. ولا شكّ في أن بدء العمل بـ»قناة إسطنبول» يثير ارتياح واشنطن، خصوصاً أنه قد يفتح، في ما لو سنحت الظروف، آفاقاً جديدة للحركة البحرية المتّصلة بالبحر الأسود. ومن المسائل قيد السجال، دور الرأسمال القطري في تمويل المشروع والاستثمار فيه وفي المساحات الواسعة من الأراضي المحيطة به، والتي قيل إنها بيعت للقطريين قَبل شقّ القناة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا