تُمثّل شيخوخة المجتمعات سمة القرن الحادي والعشرين، حيث تشكو دول كثيرة من ظاهرة باتت تؤرّق الحكومات وتضعها أمام تحدّيات جدّية تهدّد مستقبل التنمية المستدامة. لكنّ هذه الظاهرة تبدو أكثر حضوراً في الصين، التي تتفاقم خشيتها من شيخوخة مبكرة تؤثّر على زخم صعودها لتصبح القوّة الاقتصادية الأولى عالمياً في نهاية العقد الجاري. وهي خشيةٌ مردّها إلى استمرار البلاد في تسجيل معدّل نموّ سكّاني منخفض، بفعل سياسة تنظيم النسل الصارمة التي اتّبعتها الدولة سابقاً، والتي اضطرّت إلى التراجع عنها، بل وتشجيع مواطنيها، أخيراً، على إنجاب المزيد من الأطفال، في محاولة لتدارك خطر داهم يحدق بما كان يوصف بـ"المصنع العالمي للبشر"
لأكثر من 40 عاماً، ساهم التعداد السكّاني الضخم في الصين في تحقيق نموّ هائل في الدولة التي أصبحت ثاني أكبر قوّة اقتصادية في العالم، في غضون سبعة عقود. لكنّ تحوّلاً كبيراً برزت مؤشّراته أخيراً، في ظلّ تسجيل هذا البلد معدّلات نمو سكّاني منخفضة، مقارنة بتلك التي سُجِّلت في الفترة ما قبل الألفية، وهو ما اضطرّ الدولة للسماح لكلّ ثنائي بإنجاب ثلاثة أطفال، بدلاً من سياسة الطفلين المُتّبعة منذ عام 2016. ووفق أحدث تعداد صدر في أيار الماضي، أظهرت البيانات أن معدّل النموّ السنوي تباطأ إلى 0.53% خلال السنوات العشر الماضية، وهو أقلّ قليلاً من معدّل النمو في العقد السابق. وعلى عكس الصيت الذائع عنها، تعيش الصين، الدولة الأكبر في العالم من حيث تعداد السكان، خطر التحوّل، بالفعل، من دولة حافظت على حيويّتها الاقتصادية وتماسكها الاجتماعي، إلى دولة "عجوز". والجدير ذكره، هنا، أن هذه التسمية في علم الديموغرافيا تُطلق عادةً على الدول التي تسجّل ارتفاعاً في نسبة السكان ممَّن تزيد أعمارهم على 60 عاماً، في مقابل انخفاض في معدّل الولادات. لكن كيف وصلت الصين، التي يُطلق عليها لقب "المصنع العالمي للبشر"، إلى هذه النتيجة في حوالى نصف قرن فقط؟
منذ سبعينيات القرن الماضي، ووسط تسارع النموّ السكّاني، لجأت الدولة إلى تفعيل سياسة تنظيم الأسرة كوسيلة لتعزيز النموّ الاقتصادي، الذي كان مهدَّداً من جرّاء التوسّع السكّاني الكبير آنذاك. وتمثّلت أولى خطواتها في هذا المجال في إطلاق حملة "الزواج المتأخّر"، والمباعدة بين الولادات، وإنجاب عدد أقلّ من الأطفال، لتعود وتعتمد، في عام 1980، إجراء أكثر صرامة، تَمثَّل في سياسة الطفل الواحد. وعلى رغم أن هذا الإجراء لم يحظَ بشعبية كبيرة على الصعيدين المحلّي والدولي، إلّا أنه نجح في خفض معدّل المواليد. لكن نتائجه البعيدة المدى أدخلت البلاد في مأزق، حيث انخفض معدّل الولادات كثيراً، في مقابل ارتفاع نسبة الشيخوخة في المجتمع، ما أدّى تالياً إلى انكماش القوّة العاملة. إزاء ذلك، اضطرت السلطات الصينية، عام 2015، للتخلّي عن اعتماد سياسة الطفل الواحد، لتبدأ بتشجيع المتزوّجين على إنجاب طفلَين، من دون أن تنجح في وقف التباطؤ السكاني البالغ، وفق التعداد الأخير، 1.411 مليار نسمة، بزيادة قدرها 72.06 مليوناً، أي 5.38% مقارنة بـ1.33972 مليار نسمة في التعداد السادس لعام 2010، فيما بلغ متوسّط معدّل النمو السنوي 0.53%، منخفضاً بـ0.04% عن العقد الماضي. هذه المعطيات قرأها خبراء غربيون ووسائل إعلام أجنبية على أنها بداية أزمة ستشهدها البلاد في ظلّ الفجوة السكانية، حتى إن البعض ذهب إلى الحديث عن تباطؤ سيسجّله اقتصاد بكين في الأعوام المقبلة، أو حتّى عن فشلها في تجاوز الولايات المتحدة اقتصادياً، على اعتبار أن تباطؤ النموّ "يثير تساؤلات حول ما إذا كانت بكين ستصبح غنيّة قبل أن تصبح مسنّة"، وفق ما أوردته صحيفة "ذا تلغراف" البريطانية، والتي اعتبرت أن هذه المشكلة "تواجه الكثير من البلدان النامية حالياً، على العكس من البلدان المتقدّمة التي حقّقت الغنى قبل أن يشيخ سكانها".
أدّت سياسة "الطفل الواحد" إلى انخفاض معدّل الولادات في مقابل ارتفاع نسبة الشيخوخة


في مقابل ذلك، برزت وجهة نظر مغايرة في أوساط اقتصاديين، ترجمها نائب مدير مركز البحوث الاجتماعية في جامعة تشجيانغ، ليو تشيجون، الذي اعتبر أن "الحجم الإجمالي للسكّان والنموّ السنوي خلال العقد الماضي، يتماشيان مع قانون التنمية السكّانية بشكلٍ عام"، مشيراً إلى أنه "لا يوجد تراجع في النموّ، ولا نموّ سلبي". وفي حديث إلى صحيفة "الشعب اليومية أونلاين" الصينية، لفت ليو إلى أن وسائل الإعلام الأجنبية "تصرّ على أن هذا هو أبطأ معدّل نمو للصين منذ الستينيات"، معتبراً أن أدلّتهم المتشائمة حول آفاق التنمية في الصين جرّاء قضيّة النموّ السكّاني "غير صحيحة". الأمر نفسه ذهب إليه مدير معهد شرق آسيا في جامعة سنغافورة الوطنية، بيرت هوفمان، الذي رأى أن رأس المال البشري المتراكم، كاستثمارات الصين في التعليم، "سيلعب دوراً متزايداً في زيادة الإنتاجية مع دخول الأشخاص الأفضل تعليماً إلى القوى العاملة". وأضاف، في مقالٍ نُشر على موقع "إيست آسيا فورم"، أنه "منذ آخر تعداد سكّاني، تضاعفت نسبة خرّيجي الجامعات لتصل إلى 15%". وهو الأمر الذي كان مصرف "ستاندارد تشارترد" قد توقّعه سابقاً؛ إذ قال إنه بحلول عام 2030، ستبلغ نسبة القوّة العاملة الحائزة تعليماً جامعياً 27%، وهو معدّل يساوي وضع ألمانيا راهناً. وقدّر هوفمان أنه حتى "مع انخفاض معدّل الخصوبة، فإن الانخفاض في عدد السكّان سيحدث بشكل جدّي فقط بحلول نهاية العقد". وبناءً عليه، اعتبر أن المتغيّر المتوسّطي لعدد السكّان في الصين حالياً "ليس كافياً لإحداث فرق اقتصادي كبير"، مشيراً إلى أنه "لا يزال لدى الصين احتياطي كبير من العمالة الخفية يمكنها تعبئتها. سنّ التقاعد في البلاد (60 للرجال و 55 للنساء) يعني أن قوّة العمل أصغر ممّا يجب... إذا تمكّنت الصين من تحقيق المشاركة نفسها في القوى العاملة بين كبار السن كما فعلت اليابان (رفعت سن التقاعد إلى 70 عاماً)، ستصبح القوة العاملة، بحلول نهاية العقد، أكبر بنحو 5%، أي 40 مليون شخص". كما اعتبر الاقتصادي أن التطوّر التكنولوجي والروبوتات والذكاء الاصطناعي "ستجعل من الأسهل العمل لفترة أطول وأكثر إنتاجية".
أمّا في ما يخصّ التحديات، فأعرب هوفمان عن اعتقاده بأن زيادة الإنفاق على المعاشات التقاعدية وتحسين الضمان الاجتماعي سيشكّلان التحدّي الأبرز للحكومة، خصوصاً أن نسبة سكّان الصين الذين تزيد أعمارهم على 60 عاماً بلغت 18.7%. ويصف الخبير نظام المعاشات التقاعدية بأنه "ليس في حالة جيدة"، مسنداً ذلك إلى توقعات "الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية"، والتي قالت، في وقتٍ سابق، إنه "بحلول منتصف الثلاثينيات من القرن الحالي، ستفرغ خزائن المعاشات التقاعدية في الصين". على رغم ما تَقدّم، أبقى هوفمان على نظرة متفائلة في ما يخصّ الزخم الاقتصاد الصيني في العقدين المقبلين، مؤكداً أنه من غير المرجّح أن يخرج عن مساره، وذلك لسببين: الأوّل، هو أن الوقائع والظروف المحيطة حالياً بالصين تمنع هكذا سيناريو؛ والثاني، الإصرار الذي تبديه الحكومة على إعادة ضبط سياستها لمعالجة عبء النموّ على المدى الطويل، إضافة إلى استمرارها في تحسين مستوى المعيشة، واستكمال الإصلاحات التي بدأتها قبل 70 عاماً، والتي مكّنتها أخيراً من القضاء نهائياً على الفقر المدقع.





اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا