لم يكن أشدّ المتفائلين في إيران يتوقّع أن يتّجه طيف إصلاحي نحو الإدلاء بأصواته لمصلحة المرشّح المحافظ إبراهيم رئيسي، خصوصاً بعد قرارات مجلس صيانة الدستور، الذي قبل 7 أسماء ليس بينهم أيّ مرشح إصلاحي مُعلن من قبل الجبهة نفسها.
مع ما أثارته قرارات «صيانة الدستور» في إيران، الأسبوع الماضي، بعدم قبول ترشيح علي لاريجاني، رئيس البرلمان السابق، وإسحاق جهانغيري، نائب الرئيس الإيراني الحالي حسن روحاني، أظهرت بعض استطلاعات الرأي أن الإصلاحيين يتّجهون صوب العدول عن المشاركة.
لكن يبدو أن وقع كلمة المرشد السيد علي الخامنئي، في لقائه الأخير مع نواب البرلمان عبر الفيديو، والتي دعم فيها قرارات «صيانة الدستور» ودعا فيها إلى مشاركة واسعة، كان قويّاً، وغيّر في آراء بعض الإصلاحيين. من المؤكد أنه ليس السبب الوحيد، فالتخبّط القديم ــ الجديد داخل جبهة الإصلاحيين، يرتّب آثاراً غير متوقّعة أيضاً.

بعد كثرة الكلام عن إعراض الإصلاحيين عن المشاركة، فاجأت صحيفة «صوت الإصلاحات»، ذات التوجه الإصلاحي، متابعيها على صفحتها الأولى بعنوانها مع صورة المرشح المحافظ إبراهيم رئيسي: «الرئيس الإصلاحي»، في دلالة على نيّة بعض الإصلاحيين دعم رئيسي الذي يُعدّ من جبهة المحافظين. وذكرت في خبرها أن في سجلّ رئيسي إصلاحات أكثر من أولئك الذين يرفعون شعاراتها، في توجّه مقصود ضد روحاني أوّلاً، والجبهة التي فشلت في السنوات الأخيرة على عدة مستويات.

برز تعدّد الآراء هذا في غضون أسبوع واحد فقط، ما يؤكد الأزمات الداخلية على مستوى التنظيم، وعلى مستوى الشعبية. في البداية، وبعد نتائج «صيانة الدستور»، أعلنت المتحدثة باسم جبهة «إصلاحات إيران» آذر منصوري، رفض الجبهة دعم أي مرشح في الانتخابات الرئاسية. لكن وكالة «فارس» أوردت بياناً عن الجبهة ذاتها يدعم مهر علي زاده. بعدها، مرة أخرى، أعلنت جبهة الإصلاح أن لا مرشح لها في هذه الانتخابات.

ونقلت وكالة «إيسنا» عن «مجموعة إصلاحية» شروعها في حملة لدعم رئيسي. منصوري، مرة جديدة، نفت هذا النبأ، وأضافت أن المجموعات الـ 31 داخل المعسكر الإصلاحي تؤيّد جميعها موقف الجبهة: «ليس لديهم مرشح في هذه الانتخابات».

بعد هذا التصريح، خرج المتحدث باسم لجنة الإصلاحيين الداعمين لرئيسي، خضر خليلي، ليقول: «رئيسي مرشح مستقل ولديه برنامج إصلاحي لمكافحة الفساد وإزالة الخلافات ورفع العقوبات ونشر حرية التعبير وإزالة التمييز بما يخدم تطور البلاد وازدهار اقتصادها». ودعا جميع الإصلاحيين لإقامة حوار بنّاء مع رئيسي «بهدف تقليص مشاكل الشعب».

هذا الأخذ والرد تُرجما على مواقع التواصل الاجتماعي بين الجمهور الإصلاحي نفسه، بين داعم للقرار ورافض له. غرَّد أحدهم: «رئيسي رجل دين تقليدي معتدل لا يسعى إلى المواجهة مع الناس أو الفصائل الأخرى، على عكس المرشح الآخر سعيد جليلي»، في دلالة على نيّة لدى البعض دعم رئيسي منعاً لصعود جليلي، الذي يكتسي صفة المحافظ المتشدد. والبعض الآخر رفض وضع أي ورقة في صندوق الاقتراع، خصوصاً بعد رفض اسم جهانغيري، الذي كان يُعد الإصلاحي الأبرز بين الأسماء التي أخذت قرار الترشّح.

خلع عباءة الإصلاحيين
بعد رفض ترشّح جهانغيري، تساءلت صحيفة «شرق» الإصلاحية عن مستقبل الإصلاحيين السياسي في البلاد، وعن قدرتهم على تعويض خسائرهم المتتالية التي تدرّجت خسارة تلو أخرى، خصوصاً مع الخلافات الدائرة في ما بينهم.
تضاءل نفوذ الإصلاحيين، ولم يتمكنوا من العودة إلى المجد الذي عايشوه إبّان رئاسة محمد خاتمي، خصوصاً دورته الأولى عام 1997. عامها، اكتسح موقعه كرئيس للجمهورية بنيله 20 مليون صوت بنسبة اقتراع وصلت إلى 90%. أقام رحلة انتصارات إصلاحية طويلة حيث كسب انتخابات المجالس المحلية (1998)، ثم الانتخابات البرلمانية السادسة (1999)، وبعدها الانتخابات الرئاسية عام 2001.

نجح في الدورة الأولى على عدة صعد، اقتصادياً، مالياً واجتماعياً. لكنه في الدورة الثانية، بدأ يواجه الإخفاقات، ليأتي محمود أحمدي نجاد، المحافظ المتشدد، خلفاً له عام 2005. ورثه 8 سنوات متتالية قضى فيها على أحلام الإصلاحيين. سريعاً، بدأ تطهير المراكز العليا من الأسماء الإصلاحية. وفي الدورة الثانية، ترشّح نجاد مواجهاً الإصلاحيين مهدي كروبي ومير حسين موسوي. خسرا الانتخابات، وحصلت احتجاجات «الحركة الخضراء».

بعدما هدأت هذه الموجة، واجه الإصلاحيون عزلة سياسية حدَّت من قدرتهم على التأثير داخل المجتمع الإيراني. حُكم على كروبي وموسوي بالإقامة الجبرية، سُجن آخرون، ومُنع آخرون من الظهور على الإعلام أو الدخول مجدداً إلى عالم السياسة لاعتبار «تهديد الأمن القومي». تخلّى خاتمي عن «الحركة الخضراء» وتبرّأ منها، ومثله رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام آنذاك هاشمي رفسنجاني، اللذان اعترفا ضمنياً بنتائج انتخابات 2009.

مع نجاد كان الإصلاحيون خارج السلطة السياسية، قبل أن يتمكّنوا من العودة في انتخابات 2013، بدعم الرئيس الحالي حسن روحاني، عقب رفض «صيانة الدستور» هاشمي رفسنجاني. بدعم خاتمي نجح روحاني، وتشكّلت حكومته من قبل محافظين وإصلاحيين كان أبرزهم نائبه الأوّل إسحاق جهانغيري.

لم يكن روحاني إصلاحياً، إلا أن دعم خاتمي ألبسه ثوب الإصلاحيين الذين دعموه أيضاً في الدورة التي تلتها أمام إبراهيم رئيسي، حين قدّم نجاحاً نموذجياً مع الإنجاز الدبلوماسي المتمثّل في الاتفاق النووي. نجاح دولي، وخروج نسبي من العزلة، لكنّ الوضع الاجتماعي لم يتغيّر كثيراً. كان الإيرانيون يمنّون أنفسهم، كما روحاني، أن تكون نتائج الاتفاق النووي سريعة الفعالية على الصعيد الاقتصادي في البلاد، لكنّ الواقع كان غير ذلك.

ورغم عودة النفط الإيراني إلى الأسواق الدولية، وانخفاض التضخّم، ظلّت الفروقات بين الطبقات الاجتماعية كبيرة. تفاقمت الأزمة يوم كُشفت مرتبات كبار الموظفين في قطاع المصارف، والتي وصلت إلى مئات أضعاف مرتّب المواطن العادي. أزمة أعقبتها حملة إقالات طويلة، وتحقيقات بالجملة، وصلت إلى اتهام شقيق روحاني، حسين فريدون، بالمشاركة في تعيين بعض رؤساء البنوك.

فضائح وأزمات، تلاها مجيء الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وانسحابه من الاتفاق. تفاقمت المشاكل ضدّ روحاني مرةً أخرى، وارتفع سعر صرف الدولار إلى ما يقارب 30 ألف تومان، وارتفع معدّل التضخم إلى ما يزيد عن النصف، كما زادت نسبة الركود، وفوق ذلك ازدادت العزلة الدولية خوفاً من العقوبات التي أقرّها ترامب.

في الدورة الثانية، وفوق الأزمات الاقتصادية، انقسمت آراء قادة الإصلاحيين حول دعم روحاني. بعد نجاحه، لم ينتظر الأخير كثيراً حتى خلع ثوب الإصلاحيين. سريعاً، تم تغيير عدد لا يستهان به من وزرائهم. وبعدما لاح لروحاني في الأفق إعداد جهانغيري للرئاسة المقبلة، بدأ العمل على تهميش الإصلاحيين حوله، وعلى رأسهم نائبه الذي أُبعد عن خلية عمل الرئيس وحُدّت صلاحياته من قبل مدير مكتب روحاني محمود واعظي، حتى خرج جهانغيري بتصريح أنه لم يعد يمون على تغيير سكرتير مكتبه.

لم يعد روحاني محسوباً على الإصلاحيين. وكما تغيّر روحاني، تغيّرت أيضاً أجواء الإصلاحيين تجاهه، وبدأوا ينتقدون سياسات حكومته. لكنّ التظاهرات والاحتجاجات التي خرجت في أعوام 2017 و 2018 و 2019، بسبب الأوضاع الاقتصادية السيئة، طاولته مع الإصلاحيين لا وحده.
برز ضعف الإصلاحيين على خلق شخصيات جديدة تتصدر المشهد بعد خاتمي وكروبي وموسوي

ندموا على دعمهم روحاني مرّة أخرى، لكن إن دلّ ذلك على شيء فهو يدل على عدم قدرة الإصلاحيين على خلق شخصيات جديدة تتصدّر المشهد بعد خاتمي وكروبي وموسوي. كان من الممكن أن يكون وزير الخارجية محمد جواد ظريف أحد هؤلاء الوجوه القيادية الجديدة، لكن تسريب التسجيل الذي هاجم فيه ظريف القائد السابق لـ«قوة القدس» التابعة للحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني، قضى على آمال خاتمي بدعمه للترشح. إذ حاول الأخير إقناعه بذلك غير مرّة، وجرى تسريب أخبار عن نيّة ظريف تقديم أوراقه، ما قد يشكل ضغطاً عليه، لكنه بقي مصراً، قبل تسريب التسجيل وبعده، على رفض الترشّح.

«لا تطوّر»
بدأت شعبية المعسكر الإصلاحي تنحدر، وتشتّتت الآراء داخله بشأن مواضيع أساسية. ومع بداية العام الماضي، وفي لقاء جمع خاتمي وعدداً من نواب البرلمان الإصلاحيين سأله أحدهم عن رأيه بمشاركة الإيرانيين في الانتخابات البرلمانية لعام 2020، والرئاسية 2021؟ ردّ : «إن الناس لن يشاركوا في أي انتخابات مقبلة، ولا أستطيع طلب ذلك منهم، إن لم تشهد الحركة (الإصلاحية) أي تطوّر في المستقبل القريب». حتى إنه لم يرغب في مشاركة لا مرشحين ولا ناخبين.
يختلف الإصلاحيون فيما بينهم حول المشاركة في الانتخابات الرئاسية المقبلة (أ ف ب)

أمّا كروبي، فكان له رأي آخر، إذ حثَّ العناصر الإصلاحيين على أن يصبحوا نشطين سياسياً والبدء في الانتخابات من خلال تسمية المرشحين وتقديم برامج سياسية. محمد موسوي خوئيني، أحد قادة الإصلاحيين، دعا أيضاً إلى استعداد معسكر الإصلاح لانتخابات البرلمان.

رُفض معظمهم من قبل «صيانة الدستور». وبعد رفضهم، رأى مجلس «السياسة الإصلاحية» أنه لن يقدّم قائمة. جرت الانتخابات، واكتسحها الأصوليون.
أمّا في الانتخابات الرئاسية، فكانت الخلافات سيدة الموقف أيضاً. خاتمي لا يريد المشاركة. ولم تترشح أي شخصية قيادية ثقيلة ليتم دعمها بشكل مباشر. آخرون أرادوا دعم رئيس البرلمان السابق علي لاريجاني، كمحافظ معتدل ليواجه رئيس السلطة القضائية إبراهيم رئيسي. لكنّ آخرين من الطيف نفسه انتقدوا هذه العملية وعارضوا فكرة دعم «روحاني آخر»، أي مرشح غير إصلاحي ينجح بأصواتهم ثم يتبرّأ مما وعدهم به.

استُبعد لاريجاني من السباق من قبل «صيانة الدستور»، كما استُبعد جهانغيري وبقي محافظ البنك المركزي عبد الناصر همتي، ونائب خاتمي السابق محسن مهر علي زاده، الذي لم يكن من بين الخيارات الأساسية للإصلاحيين على الإطلاق.

يؤكّد التخبّط وتشتّت الآراء عمق الأزمات الداخلية لجبهة الإصلاحيين. وفي الأثناء، يستغل المحافظون ضعف خصمهم السياسي. يرجّح البعض أن ضعف الإصلاحيين الحالي سببه قوّة وصلابة الأصوليين، إلا أن الواقع أن قدرات الإصلاحيين تتضاءل شيئاً فشيئاً بسبب تعثّرهم السياسي وكثرة خلافاتهم، والأهم عدم قدرتهم على إنجاب قيادات قادرة على مواصلة وتفعيل وتطوير توجهاتهم السياسية والاقتصادية.

هذه المشكلة عاناها المحافظون أعواماً أواخر التسعينيات، وجهدوا حتى أعادوا ترتيب أوراقهم وتنظيم صفوفهم، ليقودوا الساحة من جديد.

ربما ما يحتاج إليه الإصلاحيون هو زعيم يشبه خاتمي يوم ظهر كمرشح للانتخابات الرئاسية. رجل ذو حنكة سياسية عالية، صاحب كاريزما قوية، ولسان مرن، وابتسامة هادئة، يعيد آمالهم في التواجد على الساحة السياسية مجدّداً. يكثر الكلام عن جواد ظريف كخيار من هذا النوع للانتخابات الرئاسية عام 2025، إذا ما عدل ظريف نفسه عن قراره الحالي بعد عدة أعوام. يصعب الجزم بذلك، لأن إيران من البلاد التي تتدفّق فيها الأحداث السياسية، الداخلية والخارجية، بقوة في فترات قصيرة.