لم يَحُل انشغال السلطات التركية بالتطوّرات الأخيرة في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، دون إظهارها قلقاً متعاظماً إزاء ما يجري في الداخل، بعد قيام رجل المافيا الشهير، سادات بكر، بتسريب سبعة مقاطع مصوّرة يظهّر فيها الشراكة المثلّثة التي تجمع السياسة والمافيا والشرطة، مصوّباً خصوصاً على حزب «العدالة والتنمية»، المتورّطة قياداته في «أعمال قذرة»، كما يدّعي. لكن المُقلِق بالنسبة إلى بعض المراقبين المقرّبين من السلطات، هو احتمال ضلوع الإمارات في تلك التسريبات، بهدف ضرب تركيا وتصفية الحسابات معها، وسط ترجيحات تشير إلى وجود رجل المافيا على الأراضي الإماراتية[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
في الظاهر، كانت تركيا منشعلة، في شهر أيار/ مايو الجاري، بالتطوّرات في فلسطين والمعادلات التي قلبتها المقاومة هناك. لكن القلق بدا عظيماً إزاء ما يجري في الداخل التركي. فعلى امتداد هذا الشهر، وبدءاً من الثاني منه، كان زعيم المافيا العتيق، الضابط السابق في الاستخبارات التركية سادات بكر، يفجِّر أولى قنابله العنقودية التي توالت في كلّ اتّجاه، وقد بلغت، حتى الآن، سبعة شرائط فيديو يشرح في كلٍّ منها كواليس إحدى القضايا التي تعكس العلاقة المثلّثة بين السياسة والمافيا والشرطة. وهي علاقة قديمة طبعت تاريخ تركيا الحديث، ولم تنجُ منها سلطةٌ. لكن ما يحاول بكر (49 عاماً) كشْفه الآن، يمسّ بصورةٍ مباشرة السلطة القائمة، أي حزب «العدالة والتنمية»، وما الاتهامات بتورُّط قيادات منه أو مقرّبة منه بـ»أعمال قذرة»، إلّا من شُغل المافيا. ومِن هؤلاء المذكورة أسماؤهم: بن علي يلديريم رئيس الحكومة والحزب السابق، وبرات ألبيرق الوزير المدلَّل وصهر الرئيس رجب طيب إردوغان. وبعد مرور أكثر من ثلاثة أسابيع على بدء مسلسل التسجيلات والفضائح، أصدر المدعي العام لأنقرة، أوّل من أمس، مذكرة توقيف في حقّ بكر الذي كان يستعدّ لنشر التسجيل الثامن من سلسلة فيديواته على «يوتيوب».
ادّعاءات بكر لم تمرّ بسلام، بل ألقت بظلال سميكة من الشكّ حول العلاقات «غير الشرعية» للحزب الحاكم بالمافيا، والتي ستكون لها ارتدادات متفرّقة. وفي هذا الإطار، نشرت صحيفة «جمهورييت» تقريراً موسّعاً حول مثلّث السياسة - المافيا - التجارة، جاء فيه أن هذا الثالوث موجود في تركيا في كلّ مرحلة، ولا يمكنه التحرُّك بحرّية من دون أحد أضلاعه، أي وجود رجال السياسة لحماية هذه المافيا. والمفارقة، تقول الصحيفة، أن الكثير من الأسلحة المستخدمة كانت من دول «حلف شمال الأطلسي»، حيث تحوّلت تركيا إلى مركز لتصدير المافيا إلى الشرق الأوسط خلال الحرب البادرة. كما تحوّلت بلغاريا إلى مركز للمافيا ضدّ الدول الاشتراكية. ومن الأمثلة التي تُوردها الصحيفة على قوّة المافيا في تركيا، أن رفعت كوتشوك ترياقي، محافظ ملاطيا ومن ثمّ مدير عام الأمن العام في أواخر السبعينيات، يقول إن مَن عيَّنَه في موقعه ليس رئيس الحكومة حينها سليمان ديميريل، بل الإدارة الأميركية التي أوصت به. وفي عهده، مثلاً، بدأت الإبادة المنظَّمة ضدّ العلويين، إذ يقول ترياقي إن «العدوّ الأوّل للعلويين بعد السلطان سليم الأول، هو أنا».
لم يكن سادات بكر سوى النسخة الأخيرة من شراكة المافيا والدولة المستمرّة منذ عقود. وفي آخر فيديو نشره، يقول إن إركام يلديريم، ابن بن علي يلديريم، متورّط في عملية تهريب المخدرات من فنزويلا إلى تركيا بالتعاون مع وزير الداخلية السابق محمد آغار، وذلك بعدما كان إركام يتّخذ من كولومبيا مركزاً لتجارة الكوكايين. لكن نظراً إلى اشتداد الملاحقة الأميركية وكَشْف تهريب خمسة أطنان من الكوكايين من كولومبيا، تقرَّر نقل النشاط المافيوي إلى فنزويلا، حيث الرقابة الأميركية ضعيفة. وقد ذهب إركان مرّتَين إلى كاراكاس في مطلع العام الحالي لهذا الغرض، وصدّر الكوكايين عبر جمهورية الدومينيك ومنها إلى قبرص وتركيا. ونظراً إلى أن ابن محمد آغار، تولغا، هو نائب عن حزب «العدالة والتنمية»، ففي هذا شبهة غير مباشرة على الحزب نفسه. ويقول بكر إنه لا يعتقد أن بن علي يلديريم يعرف بهذه الأمور، لكن دَوْر آغار ثابت.
ويتّهم بكر محمد آغار باغتيال الصحافي صواش بولدان، زوج رئيسة «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، بيرفين بولدان، وذلك في عام 1994. كما أن المافيا هي التي تقف وراء جريمة اغتيال الصحافي العلماني أوغور مومجو (عام 1993)، الذي فضح هذه المافيات، علماً بأن الاتهامات انصبّت حينها على المتشدّدين الإسلاميين. ويقول بكر إن أوّل مَن جاء إلى مسرح الجريمة هو وزير الداخلية، محمد آغار، لأنه كان المسؤول عنها. ويضع سادات في أحد فيديواته صورة لوزير الداخلية الحالي، سليمان صويلو، مع أحد تجّار المافيا، متسائلاً عن وجود هذا التاجر خارج السجن. كذلك، يتّهم الدولة التركية بقتل الصحافي اليساري القبرصي قوتلو آدالي، عام 1996. واعتقلت السلطات التركية، الأحد، في منطقة فتحية في محافظة موغلا، آتيللا بكر (52 عاماً)، شقيق سادات، لأن اسمه ورد في كلام أخيه عن الإعداد لعملية اغتيال آدالي. واستنكر سادات الاعتقال، قائلاً: «لماذا لا يُعتقل أيضاً محمد آغار أو كركوت إيكين، ضابط الأمن السابق والمتّهم بالمشاركة في الجريمة؟».
أثار اختفاء بكر والحديث عن وجوده في الإمارات علامات استفهام عن الدور الذي تلعبه أبو ظبي


وعلى الرغم من مرور أكثر من ثلاثة أسابيع على بدء نشر فيديوات بكر، فإن صحيفة «قرار» تلفت الانتباه إلى أن البرلمان التركي لم يشكِّل لجنة تحقيق، فيما تبقى تصريحات المسؤولين الكبار خجولة. وعلّق الناطق باسم «حزب الشعب الجمهوري»، فائق أوزتراك، بالقول إن مثل هذه الأوساخ لا تنظّفها سوى انتخابات نيابية مبكرة. أمّا رئيس الحزب، كمال كيليتشدار أوغلو، فقال إنهم لن يقبلوا بأن تكون تركيا لقمة سائغة للمافيا والناهبين. واعتبر مصطفى ينير أوغلو، أحد مسؤولي حزب «الديموقراطية والتقدُّم» الذي يرأسه علي باباجان، من جهته، أن «عدم فتح تحقيق بخمسة أطنان من المخدرات، على رغم وجود الدلائل كافة، هو صورة للعفونة في الدولة»، فيما سأل باباجان: «ما الذي يجب أن يتوافر للبدء بالتحقيق؟». ورأى سركان أوزجان، الناطق باسم حزب «المستقبل» الذي يرأسه أحمد داود أوغلو، بدوره، أنه «على رغم كلّ هذه الجرائم والمخدرات والانتحارات، فإن الدولة لا تتحرّك، وهي بذلك تلعب لعبة القرود الثلاثة: لم أرَ ولم أسمع ولم أتكلّم».
«مسلسل بكر» الذي أثار انتباه الصحافة الأجنبية، أربك من دون شكّ حزب «العدالة والتنمية» الحاكم وشريكه حزب «الحركة القومية». ونظراً إلى أن لـ»الحركة القومية» تاريخاً عريقاً، منذ السبعينيات، في العلاقة مع التنظيمات المافيوية والقومية المتطرّفة، فقد تصدّى زعيمه، دولت باهتشلي، للدفاع عن وزير الداخلية الحالي صويلو، والسابق آغار. وهو في ذلك إنّما شكّل خطّ دفاع عن إردوغان، الذي دخل بدوره على الخطّ، وإن متأخّراً جداً، بعد ثلاثة أسابيع، في محاولة لتبرئة وزير داخليته. وكانت تسجيلات بكر كشفت أن صراعاً يدور بين وزير الدفاع خلوصي آقار، ووزير الداخلية، من أجل أن يُلحِق آقار الدرك بوزارة الدفاع، وهو ما فشل فيه هذا الأخير. أيضاً، برز خلاف بين صويلو ووزير العدل عبد الحميد غول، على قاعدة عدم تحرُّك القضاء في القضية. ويقول الكاتب محمد علي غولير، في مقالة نُشرت يوم أمس في صحيفة «جمهورييت»، إن السجالات الدائرة حالياً تُظهر صراعاً داخلياً كبيراً بين أجنحة «العدالة والتنمية» المتمثّلة في كلّ من برات ألبيرق ونعمان قورتولمش وسليمان صويلو وبن علي يلديرم وخلوصي آقار.
لكن اختفاء بكر منذ فترة، وهو الذي غادر تركيا خلسةً في مطلع العام الماضي، والحديث عن وجوده في الإمارات حيث يواصل نشر فيديواته تباعاً، أثار علامات استفهام عن الدور الذي تلعبه أبو ظبي في هذا المسلسل. سؤال طرحه رئيس تحرير صحيفة «يني شفق» السابق والمقرّب جداً من إردوغان، إبراهيم قره غول، مرّتين، الإثنين الماضي وأمس الخميس، ما يعكس استياء الرئيس التركي من اعترافات بكر. بحسب الكاتب، فإن هناك «عملية كبيرة مدمِّرة وهدَّامة ضدّ تركيا تتمّ عبر استخدام بكر أداةً». ويرى أنه في الظاهر يبدو أن بكر يقوم بعملية انتقامية من خصوم له في الداخل التركي، لكن الأهم، يقول، «مَن هم وراءه ويحمونه ويحرّكونه ليضربوا تركيا». ويشير قره غول إلى أن «اللعبة الجديدة مركزها دبي، وهدفها تصفية الحسابات مع أنقرة. وكما استخدم أعداء تركيا بالأمس جماعة فتح الله غولن، ها هم يستخدمون اليوم سادات بكر». ومع ذلك، فإن «مسألة بكر ليست مسألة مافيا فحسب. ونحن شاهدنا مثيلاً لها بين عامَي 2013 و2015 بواسطة جماعة غولن. وبكر لا يملك مثل هذا الأرشيف الضخم حول المافيا وتركيا، بل هم جماعة غولن الذين يزوّدون المافيا بمثل هذه الفيديوات التي يتمّ تركيبها في دبي، على قاعدة أنهم مع أيّ جهة تستطيع أن تُلحق الأذى بتركيا، من ليبيا وقره باغ إلى فلسطين وشرق المتوسط». ويتّهم قره غول وليّ عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، ومستشاره محمد دحلان، بتنسيق هذه الأمور. ويقول إن «انقلاب 15 تموز/ يوليو 2016 قامت به أميركا وإسرائيل وموّلته دبي. وكان هذا أوّل اعتداء خارجي على جمهورية تركيا منذ إعلانها. ودبي هي نفسها التي تموّل حزب العمّال الكردستاني في سوريا وفي العراق». وينهي قره غول مقالته بالقول إن «ألف سادات بكر سيَظهر لاحقاً»، والهدف ضرب إردوغان وتركيا.