على رغم أجواء التفاؤل المحيطة بمحادثات فيينا، لا تبدو العودة إلى الاتفاق النووي يسيرة. في طهران، كما في واشنطن، تتشعّب الملفّات، وقد تتداخل، في أحيان كثيرة، مع مساعٍ حثيثة لعرقلة التوصّل إلى نقطة اختراق يُبنى عليها. وهذه المساعي تظهر تارة على شكل تسريب لتسجيل صوتي لوزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، وتارةً أخرى على شكل محاولات من جانب الحزب الجمهوري لوضع استراتيجيات تعقِّد عودة الولايات المتحدة إلى الامتثال للصفقة. وبين هذا وذاك، تصريحاتٌ قد تحمل استشرافاً بجدول زمني، يحدوها حذرٌ مبنيّ على دقّة التفاصيل، التي يجب أخذها في الحسبان، والتي قد تؤخّر اتّخاذ أيّ خطوة حاسمة.وإن كان من مؤشّر إلى ذلك، فهو تناقُض التصريحات الصادرة من كلتا العاصمتَين، ولا سيما في اليومين الماضيين، ومواصلة الشدّ والجذب بينهما، ضمن ما يمكن اعتباره امتداداً لسياسات الضغوط التي تمارسانها بعضهما ضدّ بعض، أو ما يمكن أن يرتدي لبوس التشاؤم في سبيل إسكات الأصوات المعارِضة. ولم تلبث إيران أن كشفت عن التوصّل إلى مسوّدتين في خلال مفاوضات فيينا غير المباشرة مع الولايات المتحدة، حتّى أعلنت هذه الأخيرة أن الطريق لا يزال طويلاً أمام العودة إلى الاتفاق النووي. إعلانٌ تزامن مع ما نقله موقع "أكسيوس" الأميركي عن رئيس جهاز "الموساد" الإسرائيلي، يوسي كوهين، الذي قال إن الرئيس جو بايدن أكّد له، في اجتماع عقد يوم الجمعة الماضي، أن واشنطن ليست على وشك العودة إلى الاتفاق، وأبلغه بأن "أمام الولايات المتحدة طريقاً طويلاً لتقطعه في المحادثات مع إيران، قبل أن توافق على العودة إلى الامتثال الكامل بموجب الاتفاق النووي".
وبالتوازي مع كلّ ذلك، فإن ما ينضح عن الداخل الأميركي ينبئ بأنّ الأمور تراوح مكانها، وأن مساعي العرقلة في أوجها، إذ أفاد موقع "بوليتيكو" بأن كثيرين في الحزب الجمهوري مصمّمون على "خنق" أيّ عودة يقودها بايدن إلى الاتفاق النووي. وذكر الموقع أن "الجمهوريين يبحثون استراتيجيات تجعل العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران صعبة"، وأن "الأعضاء الجمهوريين في الكونغرس يخطّطون لاستخدام مواد تشريعية تعرقل أيّ عودة محتملة إلى الاتفاق". كذلك، لفت "بوليتيكو" إلى أن محاولة الرئيس الأميركي إحياء الاتفاق النووي، من أجل الوصول إلى اتفاق دبلوماسي "أطول وأقوى"، "تواجه بالفعل شكوكاً عميقة وعقبات محتملة في الكونغرس، بما في ذلك حزب الرئيس نفسه (الحزب الديموقراطي)"، مضيفاً إن "صقور الحزب الجمهوري يسعون إلى أن يكون لهم رأي ــــ وربّما حقّ نقض فعّال ــــ إزاء أيّ محاولة من جانب إدارة بايدن للتراجع عن العقوبات الصارمة التي فرضها الرئيس السابق دونالد ترامب على طهران".
يبدو الحزب الجمهوري مصمّماً على «خنق» أيّ عودة يقودها بايدن إلى الاتفاق النووي


التطوّرات على الجانبَين الأميركي والإسرائيلي تقلّل من أهمية توقُّع الرئيس الإيراني، حسن روحاني، قبل يومين، حدوث انفراجة مهمّة، في الأسابيع المقبلة، في شأن العقوبات على بلاده. وهو تصريحٌ تزامن مع تأكيد مساعد وزير الخارجية وكبير المفاوضين، عباس عراقجي، أن "مفاوضات فيينا، التي انطلقت قبل نحو شهر بمشاركة كلّ أطراف الاتفاق النووي، وصلت إلى مرحلة النضج، وأصبحت أكثر وضوحاً". وأشار عراقجي إلى أنّه "تمّ الاتفاق على شطب قائمة من الأفراد والكيانات الخاضعين للعقوبات الأميركية، كما تمّ الاتفاق على رفع العقوبات عن قطاعات، مثل الطاقة والتمويل والموانئ". وقد جاءت تصريحات كبير المفاوضين الإيرانيين في وقت أوردت فيه وسائل إعلام إيرانية أنباء عن اتفاق إيراني ــــ أميركي على تبادل عدد من السجناء، يشمل الإفراج عن أربعة أميركيين وبريطانية إيرانية، واستعادة أموال إيرانية مجمّدة تزيد قيمتها على 7 مليارات دولار. لكنّ طهران وواشنطن نَفَتا هذه الأنباء. وبينما نقلت وكالة "رويترز" عن مندوب إيران لدى الأمم المتحدة، مجيد تخت روانجي، قوله إنه لا يمكن تأكيد تقرير التلفزيون الحكومي الإيراني عن التوصّل إلى اتفاق لتبادل السجناء، أكّد الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية، نيد برايس، أن التقارير عن الاتفاق مع إيران غير صحيحة. كذلك، نفى الناطق باسم الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زادة، وجود صفقة تبادل للسجناء مع واشنطن. ونقلت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية عنه قوله إن قضية السجناء كانت دائماً على أجندة إيران، بغضّ النظر عمّا يُطرح من قضايا خلال المحادثات النووية. ومع هذا، أفادت وكالة "أسوشيتد برس" ــــ نقلاً عن مصدر وصفته بالمطّلع ــــ بأن هناك مناقشات نشطة بين إيران والولايات المتحدة في شأن تبادل إطلاق سجناء.
في سياق آخر، انتقد المرشد الإيراني، علي خامنئي، وزير الخارجية محمد جواد ظريف، على خلفية التسريبات المسجّلة للأخير، والتي قال فيها إنّ الحرس الثوري يملك نفوذاً أكبر منه على الشؤون الخارجية والملفّ النووي، وكشفت أنه كان يعارض نفوذ الجنرال قاسم سليماني. ولم يذكر خامنئي وزير الخارجية بالاسم، لكنه قال في كلمة بثّها التلفزيون: "كان هذا خطأً كبيراً ما كان ينبغي أن يصدر عن مسؤول في الجمهورية الإسلامية". وأضاف إن وزارة الخارجية لا تحدّد السياسة الخارجية في أيّ مكان في العالم، بل "يوجد مسؤولون كبار هم من يتّخذون القرارات ويحدّدون السياسات، بالطبع وزارة الخارجية تشارك في ذلك". كذلك، أكّد أنّ الوزارة "هي المنفّذة"، مضيفاً إنّ "ثمّة المجلس الأعلى للأمن القومي، وكلّ المسؤولين موجودون فيه. القرارات تُتّخذ، وعلى وزارة الخارجية أن تنفّذها وتدفع بها من خلال وسائلها الخاصة". وقال خامنئي إن "قوّة فيلق القدس تمكّنت من وضع السياسة المستقلّة للجمهورية الإسلامية في المنطقة حيّز التنفيذ".
وعقب كلمة خامنئي، اعتذر ظريف في منشور على موقع "إنستغرام"، عن التعليقات التي "ضايقت" السلطة العليا في البلاد. وقال إنّ "تصريحات قائد الثورة الإسلامية السديدة، كما كانت دائماً بالنسبة إليّ وإلى زملائي، هي كلمة الفصل". وأبدى وزير الخارجية أمله بأن يتمكّن من العمل "بعقل واحد وقلب واحد" إلى جانب المسؤولين الآخرين، "لتنفيذ أوامر القائد الأعلى من أجل تقدُّم إيران العزيزة بشكل مثالي". كذلك، طلب ظريف "السماح" من عائلة سليماني، بعدما "جرح مشاعرها" ما ورد في التسجيل الصوتي، قائلاً إن التسريب "جرح المشاعر الصادقة لمحبّي الشهيد البارز اللواء قاسم سليماني وعائلته، وخصوصاً ابنته زينب التي تعزّ عليّ كأولادي... لقد سامحتُ كل من أعتقد أنه اتّهمني، وآمل أن يسامحني أيضاً شعب إيران العظيم، وكلّ محبّي السردار (لقب الضبّاط الكبار في الحرس)، وخصوصاً عائلة سليماني النبيلة". وكانت زينب سليماني قد نشرت عبر حسابها في موقع "تويتر"، الثلاثاء، صورة تُظهر يَدَ والدها بعيد اغتياله قرب مطار بغداد، في الثالث من كانون الثاني/ يناير 2020 بضربة جوية أميركية، مرفقة إياها بتعليق "الكلفة (التي دفعها) الميدان من أجل الدبلوماسية".



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا