مهما كان الاتجاه الذي ستسلكه مفاوضات فيينا، فهي بالنسبة إلى إسرائيل مسألة أمن قومي، وقضية جوهرية وحاسمة في بلورة صورة بيئتها الإقليمية. فإن انتهت إلى رفع العقوبات عن إيران، وعودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي، فهي ستؤدي إلى تحسّن كبير في الوضع الاقتصادي لطهران، وهو ما سينعكس على تسارع وتيرة تطوّرها على المستويات كافة، بما فيها العسكرية والصاروخية، وسيؤثر إيجاباً أيضاً على حلفائها في المنطقة، وتكون له تداعياته، من هذه البوّابة، على الأمن القومي الإسرائيلي. أمّا إن انتهت المفاوضات إلى الفشل، فهذا يعني أن إيران ستُواصل تطوير برنامجها النووي نحو سقوف أعلى، بعد تجاوزها الأسوأ على المستوى الاقتصادي، الأمر الذي سيؤدّي بدوره إلى رفع مستوى التوتّر الإقليمي، والذي ترى فيه تل أبيب تهديداً لأمنها القومي. على خلفية تلك السيناريوات، تأتي الزيارات المتوالية للقادة الأمنيين الإسرائيليين إلى واشنطن، لتثير مروحة من التساؤلات ذات الصلة، حول المساحة التي تستطيع إسرائيل التأثير من خلالها على قرارات الإدارة الأميركية وتوجّهاتها، واحتمال نجاحها في ثني الأميركيين عن خيار رفع العقوبات، أو انتزاع صيغة اتفاق على توزيع أدوار مع واشنطن، ودور المؤسّستَين العسكرية والاستخبارية في هذا التأثير المفترض، وتالياً مآلات إسرائيل على المستوى الاستراتيجي.تؤشّر «الغزوة الإسرائيلية» إلى واشنطن، كما وصفها معلّق الشؤون الأمنية في صحيفة «هآرتس» يوسي ميلمان، الى مخاوف جدّية في تل أبيب من الاتجاه الذي تسلكه مفاوضات فيينا. إذ تَقرّر أن يتوجّه إلى العاصمة الأميركية كلّ من رئيس «شعبة الاستخبارات العسكرية» اللواء تامير هايمن، ورئيس «الشعبة الاستراتيجية والدائرة الثالثة» (قائد جبهة إيران) اللواء طال كالمان، بعدما أجبرت الهبّة الشعبية في فلسطين، وارتفاع منسوب التوتر مع قطاع غزة، رئيس أركان جيش العدو أفيف كوخافي، على الانسحاب من الوفد. ويزور واشنطن، أيضاً، وفد عن «مجلس الأمن القومي»، ورئيسه مئير بن شبات، ليلتقي مع نظيره الأميركي، جاك ساليفان. كما يتوجّه رئيس «الموساد» الذي تنتهي ولايته بعد شهرين، يوسي كوهين، إلى واشنطن، للقاء رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، وليام بيرنز. ويأتي توجُّه الوفود الإسرائيلية إلى الولايات المتحدة ترجمة لتوجّهات المستوى السياسي، في أعقاب تقديرِ وضعٍ تبلوَر على أنقاض خيارات ورهانات فشلت في كبح تقدّم إيران النووي، أو في استدراجها إلى صيغ بديلة يراها الجانب الإسرائيلي أقلّ الشرور، وأيضاً بعدما استنفدت الولايات المتحدة ضغوطها القصوى بفعل صمود طهران وارتقائها في منسوب الضغوط المضادّة من البوابة النووية. بهذا المعنى، تأتي تلك الزيارات متأخّرة، ولذلك يسود تقدير عام في كيان العدو بأنها قد لا تُحقّق المؤمّل منها.
خيار مواصلة الاعتداءات الإسرائيلية قد يكون بوّابة لسيناريوات خطيرة في المنطقة


على رغم ما تقدّم، تتوجّه هذه الوفود متسلّحة، في ما يتعلّق بالملفّ النووي، بمعلومات وتقديرات تشرح مخاطر رفع العقوبات عن إيران، وانعكاسها على الأمن القومي الإسرائيلي. ومن المؤكد أنها ستجد في واشنطن آذاناً صاغية. لكن المشكلة لا تكمن في قدرة إسرائيل على الكشف عن أبعاد ربّما تكون غائبة عن الجهات الأميركية السياسية والعسكرية والاستخبارية، وإنما في قدرتها على إقناع الولايات المتحدة بخيار بديل من العودة إلى الاتفاق النووي، والسيناريوات المحتملة لما بعد الإصرار على رفض المطلب الإيراني، وخصوصاً بعدما فشلت كلّ محاولات إخضاع إيران وعرقلة برنامجها النووي. تحضر، في هذا السياق، النيّات المبيّتة لدى إسرائيل لاستدراج الولايات المتحدة إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران، على أمل أن تُحقِّق عبرها ما تعجز هي عن تحقيقه. إذ تدرك تل أبيب أن عدم رفع العقوبات عن طهران سيحدو بالأخيرة إلى الدفع ببرنامجها النووي قفزات إلى الأمام، وخاصة بعدما ثبتت قدرتها على ذلك برفعها التخصيب إلى درجة 60%. وفي هذه الحالة، ستكون الولايات المتحدة أمام خيارات محدودة، فيما أيّ مواجهة واسعة مع الجمهورية الإسلامية ستتناقض وأولوياتها في مواجهة الصين وروسيا، فضلاً عن الكلفة الناتجة من تداعيات هكذا معركة كبرى على مستوى المنطقة. إلّا أنه ينبغي أن لا يغيب عن البال أن الولايات المتحدة تحاول التأثير في الوضع الداخلي الإيراني عشية الانتخابات الرئاسية، ولا سيما بعدما ثَبت للشعب الإيراني عقم الرهان على أيّ اتفاقيات مع الأميركيين، طالما أن بإمكان أيّ رئيس جديد الانقلاب على ما أبرمه سلفه، فضلاً عن أن الرئيس باراك أوباما نفسه الذي وقّع الاتفاق لم يلتزم عملياً بمقتضياته. كذلك، ينبغي التذكير بأن الولايات المتحدة تتعامل مع مسألة الاتفاق النووي ومقتضياته كمحطّة في سياق استمرار معاداتها للنظام الإيراني، الذي لا تترك وسيلة لإضعافه والإضرار به إلّا وتلجأ إليها.
تبقى مسألة أساسية مهمّة بالنسبة إلى إسرائيل، وهي أنها تحاول الاحتفاظ بهامش حرّية في المبادرة العملياتية تحت عنوان الحرب السرّية ضدّ البرنامج النووي الإيراني. ويعني ذلك، عملياً، توزيع أدوار بين الطرفين الأميركي والإسرائيلي: من جهة، تضمن واشنطن فرملة البرنامج النووي بحسب الاتفاق المتوقّع من طهران، وفي الوقت نفسه تواصل إسرائيل ضرباتها له لإضعافه، انطلاقاً من أنها غير ملتزمة به. لكن هذا الأمر منوط بردّة فعل إيران، وما إن كانت ستعتبر الحؤول دون أيّ مسّ ببرنامجها النووي مسؤولية أميركية ودولية. كما أن خيار مواصلة الاعتداءات قد يكون بوّابة لسيناريوات خطيرة في المنطقة، تؤدي إلى توريط الولايات المتحدة، بطريقة التفافية، في المواجهة العسكرية، وخاصة إذا ما قرّرت طهران ممارسة حقها في الردّ، وبما يتلاءم مع أيّ عملية استهداف لبرنامجها، بغضّ النظر عن الجهة المنفّذة، والوسيلة التي استخدمتها. في المقابل، يبدو أن إدارة جو بايدن تحاول، أيضاً، احتواء المعارضة الإسرائيلية الشرسة لأيّ محاولة للعودة إلى الاتفاق ورفع العقوبات عن إيران. فالرئيس الأميركي أظهر حرصاً، منذ بداية تولّيه مهماته، على التشاور مع إسرائيل وعدم مفاجأتها. لكن بالنسبة إلى تل أبيب، لا يكفي التشاور والإصغاء إن لم يؤدّيا إلى ما تريده. ويبدو أن إدارة بايدن تهدف من وراء هذه السياسة الى تحقيق أمرين معاً: تقليص شدّة المعارضة العلنية الإسرائيلية للمسار التفاوضي، لأنه ما دامت تل أبيب حريصة على التواصل فستضطر إلى ضبط خطابها؛ وفي الوقت نفسه احتواء القيادة الإسرائيلية تحت هذا العنوان منعاً لأيّ مفاجآت.
على أيّ حال، يبدو واضحاً بعد فشل كلّ الخيارات السابقة، وارتداع الولايات المتحدة عن الخيارات الدراماتيكية، وعجز إسرائيل عن القيام بذلك وحدها في مواجهة إيران، أن كيان العدو دخل مرحلة جديدة على مستوى المنطقة، ستتبلور في ضوئها مسارات ومعادلات ستُسرّع من مساره الانحداري على المستوى الاستراتيجي، لتترتّب على ذلك تداعيات متسارعة على بقية المنطقة لمصلحة محور المقاومة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا