لم يكن راوول كاسترو اسماً عابراً في تاريخ كوبا. شقيق القائد العام للثورة الكوبية، فيديل كاسترو، كان أحد أبرز الذين قاتلوا إلى جانب الثوار حتى تحقيق الانتصار الكبير عام 1959، وكان أول من افتتحت به وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي أي إيه) محاولتها الاغتيالية الفاشلة بعد انتصار الثورة، حتّى قبل الهجوم على فيديل. يومها، فشلت الخطة التي كانت تقضي بترتيب حادث في طائرة راؤول لدى عودته من العاصمة التشيكية براغ، إلى هافانا. وبهذا، افتتح راوول عهد الفشل الأميركي لتغيير النظام في كوبا، الذي ما انفك استمر على مدى ستة عقود دون جدوى.اليوم، ومع اختتام جلسات المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي الكوبي، أعلن راؤول كاسترو، الأمين العام للحزب والرئيس السابق للجزيرة، رسمياً، اعتزاله أشكال السلطة كافة عن عمرٍِ يناهز الـ90 عاماً. كان كاسترو قد اتخذ هذا القرار في المؤتمر السابع لـ«الشيوعي»، مرجعاً ذلك إلى «قوانين الحياة التي لا هوادة فيها». لكنّه، في الوقت نفسه، أكد أنه إذا سمح وضعه الصحّي، فسيكون «جندياً إلى جانب الذين يدافعون عن هذه الثورة». مع رحيل راوول عن السلطة، ستخضع الثورة لعملية انتقالية، تشمل تغييرات جذرية في البلاد، ابتداءً من استبدال الجيل التاريخي للقادة الكوبيين، مروراً بإجراء تحديثات سياسية، وصولاً إلى بدء العمل على تحقيق خطة الإصلاحات الاقتصادية التي وُعد بها قبل أكثر من عقد. على أن يكون التمسّك بـ«الاشتراكية والثورة» في هذه المجالات كافة هو الثابت الوحيد.
من هنا، انبثق عنوان المؤتمر الثامن للحزب: «الاستمرارية التاريخية للثورة الكوبية»، والذي بشكلٍ أو بآخر سيشكّل محطة مِفصلية في تاريخ كوبا المعاصر، نظراً لما سينتُج منه من قرارات مصيرية ستحدّد مستقبل الجزيرة في القطاعات كافة للسنوات الخمس المقبلة. انطلاقاً من هنا، يقول السفير الكوبي لدى لبنان ألكسندر بيليسر، إن هذا المؤتمر «تاريخياً، خصوصاً بسبب خروج راوول من الحياة السياسية ورفاق آخرين صنعوا الثورة». ويضيف في حديثٍ إلى «الأخبار» أن «جيلاً جديداً من الثوار سيشغل أهم المناصب في الحياة السياسية في البلاد.. لكن هذا يعني فقط استمرارية الثورة ومشروعها الاجتماعي»، والتي تمثّلت بقرار إعادة الجمع بين قيادة «الحزب الشيوعي» ورئاسة الدولة وحصرها بدياز كانيل، الرئيس الأول لكوبا من جيل ما بعد الثورة. وهو الأمر الذي يعتبره بيليسر «ضمانة لوحدة كوبا في وقتٍ تتزايد فيه خطط واشنطن لزعزعة استقرار البلاد وإثارة انتفاضة اجتماعية». ويلفت السفير إلى أنه «في مواجهة تشديد الحصار والعقوبات ومحاولات زعزعة استقرار هافانا، يبقى أن نكون أكثر اتحاداً، وهذه هي الرسالة التي نرسلها إلى أميركا والعالم بهذا القرار». على رغم ذلك، يأتي قرار «تقاعد» كاسترو في وقتٍ تعيش فيه الدولة الكاريبية أزمة خانقة. وهو الأمر الذي لم يكن ضمن حسابات راوول حين اتخذ قرار التنحي عن السلطة قبل خمس سنوات، إذ كانت الخطة تقتضي حينها أن يكون وضع البلاد أكثر ثباتاً بحلول عام 2021، خصوصاً من الناحية الاقتصادية. إلّا أن ذلك لم يتحقق لعدة عوامل أبرزها كان التغيّر في سياسة واشنطن تجاه هافانا خلال فترة حكم الرئيس السابق، دونالد ترامب؛ إذ نسف جهود سلفه باراك أوباما، في تطبيع العلاقات مع الجزيرة، وأعاد تشديد الحصار والعقوبات على الكوبيين من خلال اللجوء إلى خنق الجزيرة بإقرار ٢٤٢ إجراء عقابياً خلال أربع سنوات.
أكد كاسترو أن تطوير العلاقة مع واشنطن سيكون رهناً بإنهاء الحصار على بلاده


يعي الساسة في كوبا هذه التحديّات جيداً، وبناءً عليها حُددت أولويات المؤتمر الذي استمرّ أربعة أيّام؛ إذ وفق بيليسر، فقد قُسّمت أعماله إلى ثلاث لجان. الأولى، ركّزت على الشأن الاقتصادي والاجتماعي بقيادة رئيس الوزراء مانويل ماريرو، وهدفت إلى استكمال تحديث النموذج الاقتصادي. اللجنة الثانية، تناولت عمل الحزب والمنظمات الجماهيرية والعمل الأيديولوجي للمجتمع الكوبي تحت قيادة السكرتير الثاني للجنة المركزية في الحزب خوسيه رامون ماتشادو فينتورا. أما اللجنة الأخيرة، فترأسها الرئيس الكوبي، وكانت مخصّصة للبحث في قضايا البلاد المستقبلية، لاسيما سياسة كوادر الحزب والمنظمات الجماهيرية واتحاد الشباب، وسياسة الحكومة. وحضر مندوبون من الحزب اللجان الثلاثة لتحليل النتائج الاقتصادية والاجتماعية التي تم الحصول عليها منذ المؤتمر الماضي. إضافة إلى ذلك، شهد المؤتمر انتخاب كوادر جديدة من جيل الشباب في الحزب، ليحلّوا مكان الكوادر من الجيل الذي شارك في صنع الثورة. ووفق بيليسر، فإن «انخراط الكوادر من جيل الشباب في الحياة السياسية، سيضمن استمرارية الثورة ومشروعها الاجتماعي، إذ سيمنح الثورة المزيد من القوة لتستمر لسنوات عديدة أخرى، ومواصلة العمل لبناء بلد أكثر عدالة».
وحظي ملف علاقات كوبا الخارجية خصوصاً مع الولايات المتحدة بمكانة بارزة في المؤتمر. وفي هذا السياق، أكد السفير أن إقامة آليات تعاون مع جميع بلدان العالم «ستظل دائماً من الأولويات الكوبية» مشيراً إلى وجود «دول نتعاون معها بشكل أكبر»، وأنّ المستقبل سيشهد «مزيداً من التعزيز لهذه العلاقات» مع دول مثل الصين وروسيا وفنزويلا وإيران وفيتنام ونيكاراغوا وغيرها. أما العلاقة مع الولايات المتحدة وفي عهد الرئيس جو بايدن، ورغم عدم الإفصاح عن تفاصيل جديدة بشأنها حتّى اليوم، إلّا أن المؤشرات القادمة من «الشمال»، تدل على وجود نية «حلحلة» في البيت الأبيض. وبناءً عليه، لا يُخفي السفير التطلّع الكوبي إلى إقامة حوار مع واشنطن، تنبثق عنه علاقة يحكمها «الاحترام والتعاون في المجالات ذات الاهتمام المشترك لصالح البلدين». وهو الأمر الذي عرّج راوول كاسترو على ذكره في المؤتمر، راهناً تحقيق ذلك بإنهاء الحصار والحرب الأميركية على هافانا، والكفّ عن المحاولات التخريبية ودعم المعارضين.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا