تمثّل العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني الخطوة الأولى للخروج من المأزق الحالي. بقي، حالياً، القليل من الوقت لإيران والولايات المتحدة للعودة إلى مبادئ خطة العمل المشتركة الشاملة، التي يعرفها مؤيدوها ومعارضوها، باسم «الاتفاق النووي الإيراني».
في العام 2015، وقّعت مجموعة من القوى العالمية على هذا الاتفاق الذي يقضي بتخفيف بعض العقوبات الدولية المفروضة على إيران، في حال تنازلت عن الجوانب الأكثر إثارة للقلق في برنامجها النووي، ووافقت على عمليات تفتيش قوية. وهذه الصفقة النووية، لم تكن صفقة سلام، بل اتفاقاً على حل المسألة النووية سلمياً. وفي عام 2018، انسحبت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب من ذلك الاتفاق من جانب واحد، إيماناً منها بأن مجموعة جديدة من العقوبات الأكثر قمعاً، من شأنها أن تشل إيران بما يكفي، وإذلالها للقبول بشروط جديدة تكون أكثر ملاءمة للولايات المتحدة.

بيد أنّ مناورة ترامب فشلت. فالبرغم من أنّ العقوبات شلّت البلاد، إلا أنها دفعت بالحكومة الإيرانية إلى إعادة البدء بالعمل النووي الذي كانت قد تخلّت عنه. كذلك، سئم بعض الدول، ومنها الصين، التي كانت تعمل بشكل وثيق مع الولايات المتحدة والقوى الأوروبية لصياغة صفقة نووية مع إيران، من انفرادية الولايات المتحدة، وعلى الأرجح، ستستأنف أعمالها مع إيران بطريقة أو بأخرى.

ولهذا السبب، أمضى المبعوث الخاص للرئيس الأميركي جو بايدن، روبرت ماللي، الأسبوع الماضي، في فيينا، للتفاوض على طريقة لعودة امتثال الولايات المتحدة للصفقة. وقد بقيت المجاملات الدبلوماسية على ما هي عليه: دبلوماسيون أوروبيون يتنقلون بين الوفود الأميركية والإيرانية، التي كانت موجودة في فنادق منفصلة. وستستمر المحادثات، التي وُصفت بالـ«بنّاءة والموجّهة نحو تحقيق نتائج»، الأسبوع القادم (الحالي)، ما يخلق نوعاً من التفاؤل الحذر.

وقد مثّل العرض المقدم من الولايات المتحدة نهاية لمعظم عقوبات «الضغوط القصوى» التي فرضتها إدارة ترامب، في محاولة لإبعاد إيران عن الاقتصاد العالمي. وتستهدف هذه العقوبات طائفة واسعة من مؤسسات البلد، بما في ذلك مصرفها المركزي ووزارتها النفطية وشركة النفط الإيرانية الوطنية. وقد أشار نائب وزير الخارجية، عباس عراقجي، إلى أن إيران يمكن أن توقف عملها النووي وتعكسه، إذا تمّ الوفاء بوعد تخفيف العقوبات المفروضة عليها، والذي حصلت عليه بموجب الاتفاق.

وبطبيعة الحال، فإنّ المفسدين القدامى أنفسهم، الذين لم يرغبوا في حصول الاتفاق منذ البداية، يمتعضون من سماع الولايات المتحدة تتحدث عن إنعاشه. والنقد الأكثر شيوعاً في أوساط هؤلاء، يتلخّص في أن رفع العقوبات، أي بمعنى آخر، الوفاء بالالتزامات القديمة للولايات المتحدة، من شأنه أن يبدّد النفوذ الذي راكمته بلادهم على مدى الأعوام الثلاثة الماضية. هذا هو موقف الجمهوريين، كالممثّل الخاص لترامب عن إيران، إليوت أبرامز ، وبعض الديموقراطيين مثل عضو مجلس الشيوخ في نيو جيرسي، والذي يقود لجنة العلاقات الخارجية، بوب مينينديز. وقد جمع السيد مينينديز أخيراً توقيع 43 عضواً في مجلس الشيوخ على رسالة تدعو، على الأغلب، إلى الإبقاء على العقوبات، إلى حين التوصل إلى اتفاق آخر يفرض قيوداً أشد على برنامجي إيران النووي والصاروخي ودعم الميليشيات الشيعية. في الواقع، تبدو هذه الرسالة أقرب إلى «قائمة أمنيات» من كونها نقطة انطلاق للمحادثات. ولو كانت إيران قابلة للخضوع لمثل هذه المتطلبات الأميركية، لفعلت ذلك منذ وقت طويل.

في هذه المرحلة، يظهر التحدي بين النهج المتشدد من جهة والمنطق السليم من جهة أخرى. وإذا رفضت الولايات المتحدة احترام الاتفاق الأول، فلماذا قد يثق الإيرانيون بأنها ستحترم الثاني؟

تكمن الحقيقة المُرّة في أنّ العقوبات «القصوى» هي غير مستدامة. وهي لم تغيّر السلوك الإيراني إلى الأفضل، بل على العكس تماماً. فبهدف معاقبة الولايات المتحدة على رفضها التمسك بالتزاماتها في الصفقة، قامت إيران بتنظيم انتهاكات حددت معاييرها على طريقتها الخاصة، مذكّرة الولايات المتحدة كيف يبدو عالم خال من الصفقة النووية الإيرانية. وبموجب هذه الصفقة، كان يسمح لإيران بتخصيب اليورانيوم حتى نقاء 3.67 في المئة، أي أقل بكثير من مستوى الأسلحة. وهي الآن تخصّب يورانيوم بما يصل إلى نسبة 20 في المئة من النقاء. وبموجب الصفقة أيضاً، اقتصرت كمية اليورانيوم لدى إيران على 202.8 كيلوغرام، فيما يقدّر مخزونها، حالياً، بنحو ثلاثة أطنان.

كما سُمح للمفتشين الدوليين، على خلفية الاتفاق، بالتحقيق في «كل شبر» من دورة الوقود النووي الإيرانية، من دون إشعار مسبق يذكر. أما الآن، فتمّ إخطار المفتشين بأنهم سيفقدون هذا النوع من الوصول إلى المعلومات. وفي حال لم يتم إحياء الصفقة النووية، فسوف يفقد المفتشون الدوليون رؤيتهم لما يحدث داخل المواقع النووية الإيرانية، بحلول شهر أيار. وليس الوضع الراهن بثابت.

كذلك، لا يمكن الدفاع عن حالة كهذه لأسباب عديدة أخرى. وفي حين كانت العقوبات المفروضة على البنوك الإيرانية والمؤسسات الأوروبية والآسيوية التي تتعامل مع إيران تهدف، في الأصل، إلى التسبّب في قدر كاف من الخسائر الأليمة في مدى قصير، لإجبار إيران على اللجوء إلى المفاوضات، فإنّ الإبقاء عليها إلى أجل غير مسمّى، قد يدفع باقتصاد إيران، البلد المتطور الذي يتجاوز عدد سكانه 80 مليون نسمة، إلى السوق السوداء بشكل كامل. كما ستؤدي إلى تمكين أكثر العناصر «تشدّداً وإجراما» في البلاد، بما في ذلك فيلق الحرس الثوري. ومن شأن ذلك أن يجعل من المعتدلين يبدون كالحمقى، بمن فيهم الرئيس حسن روحاني، الذي أنفق رأس مال سياسياً على إبرام اتفاق مع الولايات المتحدة، ويريد، الآن، أن يعود الاتفاق إلى مساره، قبل أن يغادر منصبه في آب القادم.

في هذا الإطار، حذّر وزير الخزانة، جاكوب ليو، عام 2016، من أنّ الإفراط في استخدام العقوبات المالية قد يؤدي إلى نتائج عكسية سلبية. وفي حال سئمت الدول الأخرى من تهديدات الولايات المتحدة بمعاقبة البنوك والشركات حول العالم التي تتعامل مع إيران، فقد تبدأ بالبحث عن بدائل للنظام المالي الأميركي. ولن تفقد، بالتالي، العقوبات الأميركية قوتها فحسب، بل إن مركزية البنوك الأميركية ومكانة الدولار كعملة احتياطية مهيمنة في العالم، قد تبدأ أيضاً بالانكماش.

وقد بدأنا نرى لمحات عمّا يمكن أن يحدث إذا استمرت العقوبات الأميركية لفترة طويلة. ويشكل إعلان الصين، مؤخراً، عن خطة لاستثمار 400 مليار دولار أميركي في البنية الأساسية الإيرانية للنفط والغاز والنقل، مقابل النفط، إشارة إلى أن الصين وروسيا لن تتقيّدا بمثل هذه القيود الشاقة إلى الأبد.

والأهم من هذا كله، أنه لا يمكن الاستمرار في الوضع الراهن، لأنّ العقوبات المفروضة تؤثر بشكل كبير على الإيرانيين العاديين. وفي حين تميل «الحكومات الاستبدادية» إلى إيجاد سبل للالتفاف حول العقوبات، يعاني الناس العاديون من جرّائها. وقد أعطى العراق، في منتصف التسعينات، درساً عن ذلك، بعد ما توفي أكثر من نصف مليون طفل عراقي بسبب سوء التغذية، نتيجة العقوبات التي فشلت في كبح جماح قوة صدام حسين. واليوم يموت الإيرانيون بسبب الافتقار إلى الأنسولين وغيره من العقاقير، ويُحمّل النظام الإيراني الولايات المتحدة مسؤولية هذه الوفيات. وعلى الرغم من وجود بعض «الاستثناءات الإنسانية» من هذه العقوبات، في ما يخص بيع الأغذية والأدوية لإيران، فإن استخدام هذه العقوبات على نطاق واسع ضد المصارف الإيرانية، أدّى إلى تعقيد جهود شراء هذه المواد. كما واجهت إيران صعوبات كبيرة في دفع ثمن لقاح فيروس «كورونا»، لأن عملتها الأجنبية مجمّدة في المصارف الخارجية. وما من مصلحة أحد أن تظلّ إيران حاضنة لهذا الوباء.

غير أنّ أملاً غير متناه يجتاح المتشددين، ومنهم وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، الذي يصرّ على أنّ المأساة التي تسبّبها هذه العقوبات ستدفع، من خلال معجزة ما، بالشعب الإيراني إلى النهوض وإطاحة الحكم الديني والارتماء في حضن الغرب. غير أنّ الثورات التي اندلعت في ليبيا وسوريا وأماكن أخرى أظهرت مدى حماقة هذه «التصورات الوردية». ففي حين يستحق الشعب الإيراني حكومة «أكثر إنسانية وديمقراطية»، من غير المضمون أن يحصل أيّ من هذا، وفي حال حصل، من غير المضمون أنّ ما سيخلف هذا النظام سيكون أفضل منه.

كذلك، لدى بلدان أخرى في الشرق الأوسط قلق «في محلّه» حول دعم إيران للميليشيات الشيعية في المنطقة وانتشار تكنولوجيا الصواريخ. وفي حين يزعم بعض الدول أنه يجب الإبقاء على العقوبات التي كانت موجودة في عصر ترامب لقطع الأموال النقدية التي تخوّل إيران القيام بمثل «هذا الأذى»، فهذا «التجويع النقدي» لم ينجح حتى الآن، بل حوّل إيران إلى جارة أكثر عدائية.

من جهة أخرى، في حال تمّت السيطرة على الاتفاق النووي بشكل سلمي، سيكون بمقدور تحالف إقليمي أن يتعامل مع دور إيران في المنطقة. وسيستمرّ النفوذ أيضاً: ففي حال رفع بايدن العقوبات التي كانت مفروضة في عهد ترامب، ستظلّ هنالك كمية كبيرة من العقوبات الأميركية المفروضة، ما سيترك للولايات المتحدة نفوذاً اقتصادياً يمكن استخدامه في عقد اتفاقيات لاحقة.

بعد توليه المنصب، وعد فريق السياسة الخارجية الخاص بالرئيس بايدن بجعل الاتفاق النووي «أطول مدة وأقوى»، وهو هدف قيّم. أما الخطوة الأولى نحوه، فهي عبر العودة إلى الصفقة.

المصدر: نيويورك تايمز