تسير العلاقات التركية - الأميركية، حتى الآن، ببطء شديد. وباستثناء مكالمة هاتفية جمعت الرئيسَين رجب طيب إردوغان وجو بايدن، فإن التاريخ الأقرب للّقاء سيكون في الـ22 والـ23 من نيسان/ أبريل الجاري، موعد قمّة المناخ الافتراضية التي دعا إليها الرئيس الأميركي. وبخلاف ذلك، تبدو الإشارات الصادرة مِن العاصمتَين متناقضة؛ وإذ أشار وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى أهمية دور تركيا الذي لا يمكن الاستغناء عنه في إطار "حلف شمال الأطلسي"، إلّا أن تقرير حقوق الإنسان الذي أصدرته وزارة الخارجية، أخيراً، تضمَّن انتقادات متعدّدة لتركيا في شأن حرية التعبير والتظاهر والاعتقالات العشوائية، فضلاً عن صواريخ "إس-400" الروسية، وجماعة فتح الله غولن، ومسألة "بنك خلق"، والعلاقة بين واشنطن و"وحدات حماية الشعب" الكردية في سوريا.بذلك، تنتظر تركيا لقاءً مستقبلياً ربّما لا يكون قريباً بين إردوغان وبايدن، لتحديد أُطر العلاقات الثنائية، ولا سيما أن العلاقات بين الولايات المتحدة وخصمَيها، روسيا والصين، تمضي نحو مسارات حادّة وعدائيّة. في تلك المعركة، لا تمتلك أنقرة ترَف الوقوف إلى جانب طرف ضدّ آخر، وهي تُفضّل أن تبقى على مسافة واحدة من الجميع، على ما أكّد إردوغان في مؤتمر "العدالة والتنمية"، الأسبوع الماضي. وإذا كان الاتحاد الأوروبي لا يزال يبدي "مرونة" في تعامُله مع تركيا، خصوصاً بعد قراره عدم فرض عقوبات عليها، إلّا أن الأوروبيين أبلغوا أنقرة، وفق صحيفة "حرييت"، أن واشنطن تريد منها أن تبقى "جزءاً من التحالف العابر للأطلسي"، إذ إنها تَعتبرها "مهمّة جداً في المكان الذي تقف فيه، ويجب عدم خسارتها". باختصار، تريد واشنطن من أنقرة أن تقف إلى جانبها ضدّ الصين وروسيا. لكن المراقبين يتوقّفون باهتمام أمام الدعم الأميركي الكبير لليونان، ويَرَون فيه احتمال أن تفقد أميركا الدعم التركي. يمكن واشنطن أن تكون محقَّة في تحسّبها، مع اشتداد الاستقطاب بعد توقيع اتفاق الـ400 مليار دولار بين الصين وإيران، ما يدفع إلى ازدياد مخاوف الغرب إزاء هذه "الشراكة الاستراتيجية" الجديدة، وشعوره بمزيد من الحاجة إلى تركيا.
يصنِّف بايدن روسيا على أنها التهديد الأكبر، بينما يصنّف الصين على أنها المنافِس الأكبر. فالعلاقات بين موسكو وواشنطن بلغت حدّاً غير مقبول، بعد وصْف الرئيس الأميركي نظيره الروسي فلاديمير بوتين بأنه "قاتل". كما زاد الغرب من ضغوطه بالتهديد بنشر قوّات له في أوكرانيا، وهو ما ندَّدت به روسيا وحذّرت منه. بين هذين المعسكَرين، تُراقب تركيا التطورات: واشنطن لا تبيع السلاح لأنقرة، بينما تَطلب منها عدم التزوّد بالسلاح الروسي. وفي هذا الإطار، يبرز الدور الأوروبي بين تركيا والولايات المتحدة، وتبرز أهمية الزيارة التي قام بها، يوم أمس، أعلى مسؤولين أوروبيين إلى أنقرة، هما: رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين. وعلى الرغم من خطوة "إس-400" التي تزعج بروكسل أيضاً، يتجنّب الاتحاد اتّخاذ خطوات سلبية من الآن حتى شهر حزيران/ يونيو، موعد القمّة الأوروبية التالية، على أمل أن تتحرّك تركيا جنباً إلى جنب التكتُّل، في مجالات منها محاولة إيجاد صيغة تهدئة في قبرص الجنوبية واليونان.
يطالب الاتحاد الأوروبي تركيا بعدم الوقوف إلى جانب روسيا


إزاء ما تقدَّم، يُعلّق الكاتب المعروف، إيمري كونغار، قائلاً: "إذا نظرنا إلى الصحافة، فإن العلاقات التركية - الأوروبية في أفضل حالاتها، لكن الصورة ليست على هذا النحو بالمرّة". يقول كونغار، في مقالة لصحيفة "جمهورييت"، إن رئيس بلدية أنقرة السابق، مليح غوكتشيك، كان يقول بعد الإصلاحات التركية في عام 2005: "لقد دخلنا الاتحاد الأوروبي"، لكن الأمور لم تكن على هذا النحو، وهو ما تبيّن بعد 19 عاماً. ويذكّر الكاتب بقول النائب عن "حزب الشعب الجمهوري"، أوتكو تشاكير أوزير، إن القمّة الأوروبية في 25 آذار/ مارس الفائت لم تُشِر مطلقاً إلى العضوية الكاملة لتركيا في الاتحاد، ذلك أنه "لا يَنظر إلى تركيا على أنها بلد مرشّح للعضوية"، بل بلد له مصالح في إطار هذه العلاقات، وفي مقدِّمها ما يتّصل بملفّ اللاجئين السوريين، والوضع في شرق المتوسط، بل إن أوروبا، يضيف كونغار، وَعَدَت بإعفاء المواطنين الأتراك من إذن الدخول إلى دول الاتحاد، في مقابل وقْف تدفُّق المهاجرين. وقد وفَت تركيا بوعدها، بينما اكتفت أوروبا بدفع بعض المال، بل إن بيان قمّة الاتحاد الأوروبي ربَط كلّ وعوده لتركيا بالتخلِّي عمّا تسمّيه الأخيرة حقوقها في شرق المتوسط. أيضاً، لم تُحدِّث أوروبا اتّفاق الاتحاد الجمركي، وربطَته بالاعتراف بقبرص الجنوبية. وفي المجمل، فإن أوروبا قد عادت بالعلاقات بينها وبين تركيا إلى ما قبل عام 2005.
وما بين التردُّد الأميركي في الاندفاع نحو إردوغان، والمرونة الأوروبية، فإن الرئيس التركي، بحسب الكاتب مراد يتكين، يبدي قلقاً من ثلاثة أمور: أوّلها الوضع الاقتصادي وحالة التخبُّط التي يواجهها، ومن وجوهها تغيير حاكم المصرف المركزي بعد أربعة أشهر من تعيينه، وتراجُع سعر صرف الليرة أمام الدولار؛ وثانيها إذا ما كان يجب عليه العمل على البقاء في السلطة، وبالتالي تقييد حرية المعارضة كما يفعل الآن، أو تعزيز الديموقراطية كما يطالب الغرب؛ وثالثها قيام إردوغان بمغامرات عسكرية في معظم دول الجوار التركي من سوريا والعراق، إلى ليبيا فشرق المتوسط مع اليونان وقبرص الجنوبية، وصولاً إلى آذربيجان.
وفي ظلّ هذه التهديدات التي يولّدها إردوغان، فإن الاتحاد الأوروبي يطالبه بـ"عدم الوقوف إلى جانب روسيا، وعدم تهديد أوروبا باللاجئين المسلمين، وعدم تهديدها أيضاً عبر اليونان وقبرص الجنوبية". وهنا، يدعو السفير المتقاعد، فاتح جيلان، إلى إيجاد حلٍّ لمسألة صواريخ "إس-400" يرضي الطرفَين، ويفتح الباب أمام مكاسب تركية في مجالات كثيرة مع الغرب، وفي مقدِّمها تحديث الاتحاد الجمركي مع أوروبا. وخلاف ذلك، فإن حزام النار يضيق على تركيا ويصبح من الصعوبة، بل من المستحيل، الدفاع عنه. وتتّهم أوروبا والولايات المتحدة إردوغان وفريقه السياسي بالعمل، بعد محاولة انقلاب 15 تموز/ يوليو 2016، على الابتعاد عن الغرب والاقتراب من الشرق؛ وفريق العمل هذا لا يقتصر على وزير الخارجية، مولود جاويش أوغلو، إذ يضمّ أيضاً: مستشار الرئيس لشؤون الأمن والسياسات الخارجية إبراهيم قالين، ووزير الدفاع خلوصي آقار، ورئيس الاستخبارات حاقان فيدان، ونائب الرئيس فؤاد أوكتاي. وبهؤلاء، أمكن القول بوجود "معايير إردوغان" في السياسة في كلّ محيطه الإقليمي، وآخرها التهديد بالانسحاب من "اتفاقية مونترو" حول المضائق لعام 1936.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا