لا تزال كبرى علامات التجارة الغربيّة تواجه حملة مقاطعة واسعة في الصين، بدأها ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي، على خلفيّة إعادة نشر جهة مرتبطة بالحزب الشيوعي الحاكم لتصريحات سابقة صادرة عن شركات غربية مثل «H&M» و«Nike» وغيرها، تتهجّم فيها على القطن الذي يتمّ إنتاجه في مقاطعة شينغ يانغ. ففي هذه البيانات، تفاخرت بعض الشركات بأنها تقاطع هذا القطن ولا تدخله في أي من منتجاتها، لأنّ السلطات الصينية تضطهد عمّال إنتاج القطن الذين «يعملون بالسخرة».
ومن غير المستغرب أن تعود هذه التصريحات إلى الواجهة في خضمّ حرب العقوبات المستعرة بين الصين والغرب خلال الفترة الماضية. فبعد موافقة الاتحاد الأوروبي، لأول مرة منذ ثلاثين سنة، والولايات المتحدة وبريطانيا وكندا على فرض عقوبات على كيانات ومسؤولين صينيين، ردت الصين بالمثل، ففرضت عقوبات على مسؤولين وكيانات تابعة لهذه الدول. وانتهى بها المطاف، اليوم، إلى حملة مقاطعة شعبية واسعة طاولت أكبر علامات التجارة الغربية في البلاد.

وفيما تبدو هذه المحال شبه فارغة اليوم في الصين، ونظراً إلى ما تمثّله هذه البلاد من سوق استهلاك ضخمة لشركات من غير المرجح أنها مستعدة لتكبد أي نوع من الخسائر خلال هذه السنة تحديداً، بدت هذه الشركات مرتبكة. فحذفت بعضها التصريحات عن مواقعها، ثمّ أعادتها، وغيّرت أخرى في تصريحاتها تماماً وقلبت مواقفها، في مشهد بدا أنه انعكاس للأدوار لدى بلدان اعتادت فرض العقوبات، لا تلقّيها.

آثار المقاطعة

يتمّ، حالياً، تشجيع نحو 1.4 مليار مستهلك على مقاطعة هذه العلامات التجارية، وقد امتنعت آلاف المتاجر الصينية عن استقبال هذه المنتجات تضامناً مع القطن الصيني. وفي غضون 24 ساعة، كانت هذه البضائع قد اختفت عن أكبر المتاجر الصينية الإلكترونية، مثل «علي بابا» و«JD» وغيرهما.

إضافة إلى ذلك، أعلن أكثر من 30 شخصاً من المشاهير والمؤثرين الاجتماعيين الصينيين عن مقاطعتهم علامات مثل «أديداس» و«بوما» و«كونفيرس» وغيرها. وبحسب صحيفة «نيويورك تايمز»، يتمتّع المشاهير في الصين بتأثير أوسع حتى من ذاك الذي يتمتع به المشاهير في الغرب، ما يدفع الشركات الغربية إلى التركيز على التعاقد معهم. وهذا التصرف ليس بمستغرب من جهتهم، فالمؤثرون الصينيون، بحسب الصحيفة، معروفون بالتزامهم بالقيم الوطنية، وهم يختارون التضامن مع بلدهم على حساب العقود كما حصل في عدة مواقف سابقة.

على إثره، هبطت، الخميس، أسهم «نايكي» أكثر من 3%، في «وول ستريت»، وأسهم «أديداس» أكثر من 6% في فرانكفورت. وفي لندن، خسر «بوربيري» أكثر من 4%. كما انخفض رصيد شركة «إتش أند إم» بنسبة تقارب 2% في السويد. وحتى الجمعة، كانت هذه الشركات قد بدأت بالتعافي قليلاً.



يشار إلى أنه في عام 2019، شكلت المبيعات الصينية نحو 5% من مجمل مبيعات شركة «إتش آند أم» السويدية، ومن المتوقع أن تكون هذه النسبة قد وصلت إلى 10% خلال عام 2020، في ظلّ تعافي الصين السريع والذي فاق التعافي الأوروبي من تبعات جائحة «كورونا». غير أنّ المحلّلة في شركة الاستثمارات «برستيان»، أنيشا شارمان، تؤكد أنّ هذه المرحلة تشكل تحدّياً كبيراً لهذه الشركات التي تجد نفسها في مواجهة القوة الشرائية الهائلة للشعب الصيني. وتضيف لشبكة «سي أن أن»: «إنّه موقف صعب جداً. فهذه الشركات غير قادرة على التراجع عن مواقفها، وفي الوقت نفسه تريد التأكد من أنها لن تتخلّى عن الزبون الصيني». كذلك، تؤكد شارمان أنّه «حتى خسارة بنسبة 5% هي بمثابة ضربة قاسية لشركة مثل «آتش آند أم» في سنة كهذه، فالشركة لا تزال تحاول أن تتعافى من خسائرها»، لافتة إلى أنّ تبعات هذه المقاطعة ستكون أخطر على العلامات التجارية الأخرى. فشركة «بوربيري» البريطانية مثلاً، صَنّفت في أحدث تقرير سنوي لها، أيّ تغيير مهم في عادات إنفاق الاستهلاك الصيني كأحد «المخاطر الرئيسية على مبيعاتها».

وبحسب تقرير صادر عن شركة الاستشارات «باين آند كومباني» (Bain And Company)، من المتوقع أن تصبح الصين أكبر سوق لتجارة البضائع الفاخرة في العالم، علماً بأنها البلد الوحيد في العالم الذي سجل خلال العام الماضي نمواً في هذه السوق، حيث بلغت قيمتها 44 مليار يورو، أي نحو 52.2 مليار دولار أميركي.

في هذا الإطار، يرى مراقبون أنّ هكذا فترات من المقاطعة تصبّ في مصلحة المنافسين المحلّيين الذين يعرفون الذوق الصيني بشكل جيد، والقادرين على تجنب أي مشاكل سياسية كهذه التي تحصل حالياً.

التخبط «الافتراضي»

في الوقت الحالي، تحذف بعض الشركات تصريحاتها السابقة، أو تعطي تصريحات حول منتجاتها تتناقض تماماً مع ما نشرته سابقاً. فحذفت «إتش آند أم» بيانها الأصلي حول السخرة في شينغ يانغ عن موقعها الإلكتروني لفترة، قبل أن تعيد نشره الجمعة.

في خطوة مماثلة، أفادت شركة «زارا» الإسبانية، في تقرير، عن سحبها لبيانها السابق الذي ذكرت فيه أنّ العمل القسري في شينغ يانغ يدعو إلى «القلق الشديد».

وبحسب تقرير نشرته صحيفة «إنسايدر»، أصدرت شركة واحدة على الأقل من بين هذه الشركات، بياناً، يتعارض كلياً مع مواقفها السابقة حول إقليم شينغ يانغ. على سبيل المثال، أكدت الشركة الألمانية للألبسة «هوغو بوس» لـ«إن بي سي نيوز»، أيلول الماضي، أنها تطالب مورديها بإثبات أنهم لا يحضرون القطن من شينغ يانغ. أما الأربعاء الماضي، فكان للشركة كلام آخر. فعكست مواقفها، مؤكدة لزبائنها الصينيين أنها تستخدم فعلاً قطن شينغ يانغ في إنتاج ملابسها وهي لا تخطط للتوقف عن ذلك.

في هذا الصدد، قالت الشركة الألمانية، في بيان لها على مواقع التواصل الاجتماعي الصينية: «لسنوات عديدة، احترمنا مبدأ (الصين الواحدة)، ودافعنا بحزم عن السيادة الوطنية والسلامة الإقليمية». وأضافت: «القطن المدبب الذي تنتجه شينغ يانغ منذ زمن طويل هو واحد من أفضل أنواع القطن في العالم. وسنواصل شراء القطن من هذا الإقليم ودعمه».

دعوات لزيارة شينغ يانغ

من جهتها، رحّبت حكومة شينغ يانغ المحلية، الاثنين، بالمؤسسات الأجنبية التي ترغب في زيارة مناطق إنتاج القطن وشركات النسيج في الإقليم، والتحدث مع مزارعي القطن لاتخاذ «خيار حكيم». كما نددت بتصنيف الدول الغربية للوضع فيها بـ«إبادة جماعية»، معتبرة أنه يشكل «أكبر حالة من حالات التأطير في تاريخ البشرية».

كذلك، إلى جانب الحكومة المحلية، أعربت الحكومة المركزية الصينية مراراً وتكراراً، عن انفتاحها إزاء زيارة مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، فضلاً عن مسؤولين من بلدان غربية أخرى لشينغ يانغ، لافتة إلى أنّ عليهم التزام بعض المعايير التي لا تتعارض مع السيادة الصينية ولا تمسّ في شؤونها الداخلية.

وقد عبّر المتحدث باسم الخارجية الصينية، زهاو لي جيان، بوضوح عن هذه النقطة، مؤكداً أنّ التواصل الصيني مستمر مع مفوضية الأمم المتحدة حول زيارتهم للصين، بعكس ما يروّج الإعلام الغربي، على أن يكون هدف الزيارة تدعيم التواصل والتعاون بدلاً من إجراء «تحقيقات» مزعومة وذات إدانة مسبقة.