تُحقِّق تركيا خطوات ثابتة في تعزيز نفوذها في القارة الأفريقية (لا سيما جنوب الصحراء)، عبر مسارات دبلوماسية واقتصادية وعسكرية متضافرة، ضمن سياسة خارجية تعمل على استشراف مساحات حركة جديدة، أو إعادة جَرد مقدَّراتها الإقليمية لإعادة توظيفها وضمان حصتها في «أفريقيا الناهضة». هذا التحرُّك مَثَّل النجاح الدبلوماسي الأبرز للرئيس التركي رجب طيب إردوغان، طوال قيادته للبلاد التي أصبحت بدورها واحدة من أبرز القوى الدولية حضوراً في القارة (من 12 سفارة فقط في عام 2009، إلى 42 سفارة في عام 2019، ويُتوقَّع تجاوز الرقم 45 في العام الجاري بوجود غينيا بيساو وتوجو وإيسواتيني (سوازيلاند سابقاً) وليسوتو على قائمة الافتتاحات المرتقبة).وعلى رغم المبالغات في دور أنقرة في القارة الأفريقية، سواء المقصودة أم القائمة على جهل «كلاسيكي» وترويج نمطي، وانكشاف قصور قدرات الأولى الحقيقية أمام حاجات القارة الهائلة لمواجهة تداعيات «كوفيد-19»، فإنه لا يمكن، بأيّ حال من الأحوال، وضع تركيا في مصاف القوى الكبرى الفاعلة في أفريقيا، إلى جوار الصين والولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي، بل إن الأكثر واقعية، بحسب مراقبين كثر، النظر إليها كقوّة مثل الإمارات والسعودية وقطر؛ وكذا النظر إلى دورها على أنه «وظيفي» في الأساس ومشروط بتوجّهات وملفات السياسات الأميركية في القارة، بل وإحدى أدوات ضغط واشنطن في جميع المناطق التي تنخرط فيها في هذه القارة، إلى جانب عدم توازن الحضور التركي وتَركُّز قوّته الحقيقية في بعض الدول الأفريقية القليلة، أبرزها إثيوبيا والسنغال.

خريطة الانتشار
يرتبط الانتشار التركي الراهن في أفريقيا ونقاط ارتكازه، بالوجود «الاستعماري» العثماني السابق والأيديولوجي الحالي، كما يتّضح من جرّاء النشاط التركي في الصومال والقرن الأفريقي وإقليم الساحل. ويتّضح من تعليقات كثيرة تحرُّك تركيا في محورَين رئيسَين في أفريقيا، هما: ليبيا والبحر الأحمر (وظهيريهما: إقليما الساحل والقرن الأفريقي)، بعد نجاحها في تحقيق اختراقات مهمّة في البلقان والشرق الأوسط. وفيما ظلّت ليبيا بؤرة اهتمام السياسة الخارجية التركية طوال عام 2020، استمر الصومال، الذي يطلّ على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، على قمّة أولويات أنقرة الأفريقية، وأصبح، في العام ذاته، خامس أكبر متلقٍّ للمعونات الخارجية للحكومة التركية، وثاني أكبر متلقٍّ لمعونات المنظمات غير الحكومية التركية بعد سوريا مباشرة، والتي تجاوزت مجتمعةً حاجز المليار دولار منذ نهاية عام 2019، كما أعفت أنقرة مقديشو (تشرين الثاني/ نوفمبر 2020) من جميع ديونها المستحقة (3.4 ملايين دولار فقط)، لتتبعها إيطاليا، منتصف الشهر الجاري، بخطوة مماثلة، وبمبلغ ضخم يساوي 1.4 مليار دولار.
ويمتدّ نفوذ أنقرة إلى غرب القارة الأفريقية، مرتكزاً على علاقات ثنائية متميِّزة بين الرئيسَين التركي والسنغالي ماكي سال، والتي توطّدت منذ زيارة هذا الأخير لأنقرة في كانون الثاني/ يناير 2020، لتصبح تركيا رائدةً في تقديم مشروعات بنية أساسية مهمّة في داكار وبعض المناطق الأخرى في البلاد، بعدما تمكّنت، العام الماضي، من توقيع اتفاقات مع نيجيريا في مجالات الأمن ومواجهة الإرهاب والصناعات الدفاعية، بينما يتراجع النفوذ التركي، بخطاباته الدعائية المرافقة لتوظيف قواه الناعمة، في وسط القارة وجنوبها بشكل ملفت.

الاستثمارات: دلالات متناقضة
اتّجه الاستثمار الخارجي المباشر لتركيا في أفريقيا في مسار مناقض لمساره العام طوال عقد؛ فقد تراجع إجماليه من 188 بليون دولار في عام 2010، إلى 165 مليار دولار في عام 2019، بينما ارتفعت الاستثمارات التركية المباشرة في أفريقيا من 100 مليون دولار فقط في عام 2003، إلى 6.5 مليارات دولار في عام 2021، بحسب تقديرات صحيفة «فايننشال تايمز»، وهو رقم ضئيل إجمالاً لا تتجاوز نسبته 4% من الاستثمارات التركية، ويعادل تقريباً حجم استثماراتها في الإمارات وحدها (6 مليارات دولار في عام 2020)، إلى جانب تباين قطاعي، حيث تتركَّز الاستثمارات التركية الخارجية إجمالاً (بنسبة تتجاوز 60%) في قطاعات التمويل والتصنيع والطاقة، فيما تتركّز في أفريقيا في قطاعات الزراعة والبناء والتشييد والبنية الأساسية والتجارة والتوزيع، ويأتي التصنيع والطاقة في المرتبة الأخيرة.
وتؤكّد تركيا انتهاج مقاربة «الفوز للجميع» في سياساتها الأفريقية، وأنها بينما تدافع عن «حقوقها ومكاسبها»، بحسب وزيرة التجارة روهصار بيكجان، فإنها تُولِي أهمية لحقوق الدول الأقل نمواً أيضاً، وأغلبها دول أفريقية. ودلّلت الأرقام على ارتفاع تجارة تركيا مع أفريقيا بنسبة 7% في عام 2019، إذ وصلت إلى 26.2 مليار دولار (لتحلّ بعد الاتحاد الأوروبي والصين والولايات المتحدة والهند والإمارات والمملكة المتحدة، وألمانيا وقبل البرازيل). وتتّسم، مقارنة بمؤشرات شركاء آخرين مثل ألمانيا والمملكة المتحدة، بمنحى ثابت، أظهرته أرقام الأشهر التسعة الأولى من عام 2020 ببلوغ الرقم 18.2 بليون دولار، على الرغم من تداعيات جائحة «كوفيد-19»، في مقابل تراجعات تجاوزت 25% في حالة ألمانيا على سبيل المثال. كما تتطلّع تركيا إلى تطوير مزيد من مشروعات الاستثمار والتعاون، بما فيها الشراكات بين القطاعَين العام والخاص (PPP)، ولا سيما في مجالات الصحة والنقل والهندسة والعمارة والمصارف والصناعة واستغلال مقدراتها في قطاع تكنولوجيا المعلومات. وتؤكد تركيا أن مقاربتها للتعاون الاقتصادي مع القارة تتطابق مع رؤية الاتحاد الأفريقي 2063 وأهدافها في التصنيع والتحوّل الصناعي والإنتاج المضاف القيمة، الهادف إلى جعل أفريقيا «مركز قوّة عالمية». لكن يلاحَظ أن ما يقرب من نصف الاستثمارات التركية المباشرة في أفريقيا تتركّز في إثيوبيا وحدها (نحو 2.5 بليون دولار)، وهو ما يعبّر عن تشوّه في حقيقة تمدُّد النفوذ التركي بشكل واضح، حيث تأتي في المرتبة الثالثة من حيث حجم الاستثمارات المباشرة للدول الأجنبية في إثيوبيا بعد الصين والسعودية، والخامسة من حيث عدد المشروعات بعد الصين والهند والسودان والولايات المتحدة (2019)، أبرزها مشروع منطقة صناعية جنوب إقليم تيغراي، بتكلفة 856 مليون دولار، لتعزيز رؤية إثيوبيا 2025 بتحويلها إلى «منفذ صناعي لأفريقيا».
ارتفعت الاستثمارات التركية المباشرة في أفريقيا من 100 مليون دولار في 2003، إلى 6.5 مليارات دولار في 2021


وفي تكرار لحالات لاعبين كبار في ملفات القارة الأفريقية، قادت تداعيات «كوفيد-19» إلى تحجيم قدرة أنقرة على مواصلة توسُّع نفوذها في القارة، ولا سيما أن الاقتصاد التركي نفسه يعاني من مصاعب جمّة. وفي اتجاه مقابل، تواصل تركيا لعب دور أمني مهمّ في القارة، إذ تُعدُّ مورّداً بارزاً للسلاح، وتحتفظ بقاعدة عسكرية - تدريبية في الصومال، وتُقدِّم تمويلاً لقوّات مواجهة الإرهاب في إقليم الساحل.

استعمار جديد أم شراكة متكافئة؟
تتبنّى القيادة السياسية التركية، وكذلك المنظمات غير الحكومية والشركات الخاصة، مقاربة النفع المتبادَل مع دول القارة، وتشير إلى أنها تتفهّم دوافع القوى الاستعمارية السابقة (خاصة فرنسا) في التكالب مجدّداً على موارد القارة لاستنزافها واستئناف استغلال شعوبها، كما تُقدِّم نفسها لدول القارة باعتبارها دولة «أفريقية - أوروبية - آسيوية» Afro-Eurasian State، وليست قوّة خارجية ذات طابع استعماري.
لكن المقاربة التركية في ليبيا، ومناوراتها ضدّ مصر ومصالحها بالقرب من صميم تهديدات الأمن القومي المصري في إثيوبيا، فضلاً عن اقتفاء السياسة الخارجية التركية في أفريقيا خطوات السياسات الأميركية وأدواتها وسبل الحفاظ على مصالحها (مثل مكافحة الإرهاب في الصومال، وتحسين العلاقات مع السنغال، والانخراط في ملف الأمن في نيجيريا، وقبل كل ذلك تبنّي الأجندة الأميركية في ليبيا)، يُعزِّز تصوّر اعتماد قبول إردوغان بلعب دور «متعهّد» السياسات الأميركية - التركية في أفريقيا، وليس استغلال هوامش الحركة التي تتركها واشنطن لعدد من حلفائها في القارة. كما كشف الوباء حدود الدور التركي، إذ لم تستطع هذه الأخيرة الاضطلاع بدور دول كبرى مثل الصين والهند وروسيا بتوفير اللقاحات، كما لم تستطع تقديم مساعدات أو إعفاءات من الديون للكثير من الدول الأفريقية على النمط الذي قامت به الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين.
على رغم كلّ ذلك، تظلّ مسألة العثمانية الجديدة، وتصوّرات جنوح إردوغان نحو توطيد صلاته مع دول القارة المسلمة والمواطنين المسلمين بغرض إعادة أمجاد الدولة العثمانية بعد نحو قرن كامل من سقوطها، من قبيل الخطاب الإعلامي الشعبوي (سواء الغربي والدولي أم العربي) المناهض لسياسات إردوغان، والمتجاوِز - عمداً أو إغفالاً - لملاحظة روابط مفهومة بين سعي الدولة التركية لتحقيق مصالحها بأدوات متوافرة لها وباستغلال ثغرات يُخلّفها منافسوها الإقليميون والدوليون من جهة، وبين حقيقة مقاربات إردوغان البراغماتية لتعويض قصور قدرات بلاده عن الوفاء بالتعهُّدات والآمال التي يطرحها على شعوب القارة وحكوماتها بلغة حماسية وعاطفية فجّة، من جهة ثانية.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا