لم يُخفِ أقطاب إدارة بايدن أن عودة الولايات المتحدة إلى احتلال موقعها «الريادي» على رأس هرم النظام الليبرالي الدولي، منوط بنجاحها في «رأب الصدع» بين ضفّتَي الأطلسي وترسيخ التحالف مع أوروبا. غاية هذا التحالف، بحسب هؤلاء الأقطاب، هو التصدّي للقوى الدولية الصاعدة كروسيا والصين، والتي تمثّل تهديداً لـ«قيم» النظام الليبرالي الدولي، ولمصالح أبرز أطرافه. يسعى الأميركيون إلى إقناع الأوروبيين، وفي مقدّمتهم ألمانيا، بأن المصالح والقيم المشتركة تقتضي التوحُّد في مواجهة هاتين الدولتين. جارى الأوروبيون الإدارة الأميركية الجديدة في مواقفهم النقدية، الشديدة أحياناً، حيال بعض سياسات موسكو وبكين. لكن وجود مصالح مشتركة وازنة، كمشروع «السيل الشمالي 2» بين روسيا وألمانيا، الذي سيتيح تزويد الأخيرة وعدد من الدول الأوروبية الأخرى مباشرة بالغاز الروسي، وقناعة قسم من النخب الأوروبية الحاكمة، التي عَبّر عنها الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية مثلاً، بضرورة تعميق العلاقات مع روسيا لاجتذابها إلى أوروبا وإبعادها عن الصين، يتناقضان وتوجُّهات واشنطن الساعية إلى إثارة استقطاب بين معسكرَين متقابلَين: الصين وروسيا من جهة، و«الديموقراطيات الغربية» من جهة أخرى. باسم القيم الديموقراطية، وعبر التهويل بالخطر الذي يُمثّله تطوُّر القدرات العسكرية الروسية وعودة موسكو إلى المسرح الدولي، تَجهد الولايات المتحدة لإقناع الأوروبيين، وأوّلهم الألمان، بالتمسُّك بحمايتها، ولا ضير في سبيل ذلك من استفزاز روسيا لإثارة المزيد من التوتُّر معها. هي في الواقع تريد استتباع الأوروبيين عبر إخافتهم من «البعبع» الروسي. ويأتي التركيز على شخص بوتين والعمل على «أبلسته» وتصويره على أنه تجسيد للشرّ ليخدم هذه الاستراتيجية.
التصعيد الأميركي ضدّ روسيا سيفضي إلى المزيد من احتدام التناقضات على المسرح الدولي
فريق بايدن مدرك للتطوُّر النوعي الذي طرأ على قدرات روسيا العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية في العقدَين الماضيين، وهو يعرف أن التعاون المتزايد بينها وبين الصين سيفضي إلى تعزيز قوة البلدين في مقابل بلاده. غير أنه، وبدلاً من تقديم حوافز لروسيا لإبعادها عن الصين، التهديد الاستراتيجي الأكبر، يُصرّ على استعداء الدولتين معاً. ثمّة تحليل آخر يحاول تفسير هذه المقاربة الأميركية انطلاقاً من فرضية أن لروسيا نقاط ضعف مرتبطة أساساً باقتصادها، وأن تكثيف الضغوط عليها في مرحلة أولى، وعرض حوافز عليها في مرحلة تالية، قد يسمح بتحييدها عن المواجهة الدائرة مع بكين. مقال فرديريك كمب، رئيس مركز «الأتلانتيك كونسيل»، على موقع المركز، بعنوان «القاعدة الروسية - الصينية على القمر سبب إضافي لدفع بايدن إلى التفكير في استراتيجيته حيال بوتين»، مثال على هذه المقاربة. يشير كمب إلى أن الاتفاق المُوقّع لبناء هذه القاعدة هو دليل على أن روسيا ستتعاون مع الصين في صناعات الفضاء، بعد أن كانت الولايات المتحدة شريكتها لأكثر من ربع قرن في هذا المجال. تعاونٌ يُضاف إلى آخر متعاظم في شتّى المجالات العسكرية والتكنولوجية والعلمية والاقتصادية، سيؤدي إلى تمتين أكبر للشراكة بين البلدين. لكن، وبما أن روسيا هي بنظره الطرف الأضعف، فإن بلورة استراتيجية تدمج بين الضغوط والعقوبات من جهة، والحوافز في مرحلة ثانية، من جهة أخرى، قد تساعد على إبعادها عن الصين.
أيّاً كانت رهانات بايدن وفريقه، فإن التصعيد الذي شرع به ضدّ روسيا سيفضي إلى المزيد من احتدام التناقضات على المسرح الدولي، وتأجيج للصراعات في أكثر من بقعة من العالم.
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا