لم يَتغيّر خطاب جو بايدن، بعد انتخابه رئيساً، حيال الصين، عن ذلك الذي اعتمده خلال حملته الانتخابية. ففي مقابلة مع محطة «سي.بي.أس» الأحد الماضي، أكد بايدن أن الخصومة بين بلاده والصين ستتّخذ شكل منافسة قصوى، وقال إن نظيره الصيني قاسٍ جدّاً، وإنه «ليست هناك ذرّة من الديموقراطية في شخصه. ولا أقول ذلك من باب الانتقاد، إنها الحقيقة فقط». وأفادت التقارير الإعلامية بأن الرئيس الأميركي زار «البنتاغون»، وشَكّل فريقاً معنيّاً بملفّ الصين، ومُكلَّفاً بمراجعة المقاربة العسكرية للمخاطر التي تُمثّلها. وهو لم يتردَّد، في أوّل محادثة هاتفية مع نظيره الصيني، في تناول الأوضاع في هونغ كونغ وسين كيانغ وتايوان، ما استدعى ردّاً حازماً من شي جينبينغ، يرفض فيه ما اعتَبره تدخُّلاً في الشؤون الداخلية للصين. تزامَنت هذه التصريحات مع مباشرة البحرية الأميركية عمليات تدريب وتنسيق مزدوجة بين سفن وطائرات مجموعتَين من حاملات الطائرات: «تيودور روزفيلت كارير سترايك غروب» و«نيميتز كارير سترايك غروب»، في بحر الصين الجنوبي. وكان رئيس القيادة الاستراتيجية الأميركية، الأدميرال تشارلز ريتشارد، قد رأى في مقال على موقع «معهد البحرية الأميركية»، أشرنا إليه سابقاً في «الأخبار»، إلى أن الحرب النووية باتت «محتملة جدّاً مع الصين وروسيا».اللهجة الحادّة تجاه هذين البلدين، والمناورات العسكرية الاستفزازيّة في جوارهما، لا تفاجئ قيادتَيهما السياسية والعسكرية. ليس سرّاً أن «الدولة العميقة» في روسيا، حتى في ظلّ رئيس غربيِّ «الهوى» كبوريس يلتسين، كانت مقتنعة بأن استراتيجية الاحتواء التي اتُّبعت ضدّ الاتحاد السوفياتي، استمرّت بعد انهياره ضدّ روسيا بهدف إضعافها وتفكيكها. ويكشف مقال نُشر على موقع «أنتي إمباير» بعنوان «كيف أشعلت حرب الخليج شرارة الثورة العسكرية الصينية»، للكاتب الصيني ليو زين، أن القيادة الصينية أدركت، بعد ما سُمّي «حرب تحرير الكويت» وما أظهرته من تفوّق عسكري أميركي ساحق يُوظَّف للتأسيس لهيمنة أحادية على العالم، أن بلادها قد تصبح في دائرة الاستهداف الأميركي، وقرّرت منذ ذلك التاريخ الشروع في عملية تحديث ضخمة لقدراتها العسكرية لحماية سيادتها ووحدة ترابها.

هجوم نووي «نفسيّ ومعنويّ»
يقول ليو زين إن الحرب على العراق بذريعة تحرير الكويت، وما تخلّلها من استعراض للقوة النارية الهائلة وللتكنولوجيا فائقة التطوُّر في ميادين الصواريخ والذخائر «الذكية»، والتوجيه عبر الأقمار الصناعية والتحكّم بمسرح العمليات، والحرب الإلكترونية والقاذفات الشبحية، كان لها وقع مزلزل على القيادة الصينية، أشبه بـ«هجوم نووي نفسي» بحسب تعبير مسؤولين سابقين. فـ«عاصفة الصحراء» مَثّلت، وفقاً له، «فجراً لثورة في الشؤون العسكرية، وأبرزت تخلُّف الجيش الصيني في تلك الفترة، مع ما ترتّب على ذلك من خوف على الأمن الوطني. هي أوضحت للصين النمط الحديث لخوض الحرب، وأجبرت جيشها على الانتقال من مرحلة الاعتماد على الآليات إلى تلك المستندة إلى تكنولوجيا المعلومات. ومن النظريات العسكرية إلى بنية الجيش وأسلحته وتجهيزه، اكتشفنا أن الأميركيين تجاوزونا بعقود... وأن عقيدة حرب الشعب أصبحت فاقدة للصلاحية».
الاستعداد للحرب، ولو بهدوء ومن دون استعراض، قد يكون وحدَه الكفيل بإبعاد شبحها


انطلاقاً من وعيها للبون الشاسع بين قدراتها العسكرية وتلك الأميركية، غَلّبت القيادة الصينية سياسة «شراء الوقت» والعمل بصمت وبعيداً عن الأضواء لإحداث قفزة نوعية في قدراتها الرادعة. وهي نظَرت إلى منظومات السلاح الأميركية المتقدّمة، كالصواريخ الدقيقة وتلك المضادّة للصواريخ والطائرات الشبحية، كنموذج لِما ينبغي لها امتلاكه. ويَذكر الكاتب أن الجنرال المتقاعد، جين ينان، أسرّ له بأن الجيش الصيني قام «بنسخ الكثير من التقارير العسكرية الأميركية، خاصة تلك المتعلّقة بالقواعد العملياتية، وبدأ بإعادة هيكلة قواته بناءً على ما تضمّنته من معايير ومعطيات». نمَت الميزانية العسكرية الصينية بوتيرة فائقة السرعة منذ أواخر التسعينيات، وأضحى الإنفاق العسكري السنوي الصيني الثاني عالمياً (178,6 مليار دولار)، بعد ذلك الأميركي الذي بلغ 732 مليار دولار في 2020. وبحسب تقارير «البنتاغون»، فقد أصبحت الصين تتفوّق على الولايات المتحدة في مجال بناء السفن الحربية وصواريخ أرض - أرض التقليدية ومنظومات الدفاع الجوي الصاروخية المندمجة. أمّا على مستوى سلاح الجوّ، فإن لديها أسطولاً يضمّ 4500 طائرة، بينها حوالى 2000 من المقاتلات، أي ثالث قوة جوية في العالم، وهي الدولة الثانية كونياً التي طَوّرت طائرات شبحية من الجيل الخامس. شهدت قوتها الصاروخية أيضاً نموّاً ضخماً، بما فيها تلك الباليستية العابرة للقارات والقادرة على حمل رؤوس نووية أو الفائقة السرعة.
ثلاثة عقود مضت على «حرب تحرير الكويت»، والخلاصة الأساسية التي توصّلت إليها القيادة الصينية آنذاك هي أن الهيمنة الأميركية ترتكز إلى التفوق العسكري النوعي على بقية دول المعمورة، وأن واشنطن لن تتردّد في استخدامه ضدّ أيّ «منافس» إن استطاعت ذلك. واستنتاجها الرئيس كان أن الاستعداد للحرب، ولو بهدوء ومن دون استعراض، قد يكون وحده الكفيل بإبعاد شبحها.