مياه كثيرة جرت تحت جسر الاتفاق النووي منذ أن قَرّر الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، الانسحاب منه في أيار/ مايو 2018. فقد شَكّلت تلك الخطوة، في حينه، نقطة انطلاق لمسلسل عقوبات أميركية على إيران سُمّي بحملة «الضغط الأقصى»، حيث طالت هذه العقوبات التي فاق عددها الـ750 أغلب القطاعات الاقتصادية لـ«الجمهورية الإسلامية». في المقابل، أحجمت طهران، بدايةً، عن القيام بأيّ ردّ على الخطوات الأميركية، أملاً في تحرّك الأطراف الدولية الأخرى المُوقِّعة على الاتفاق لتعويضها عن الأضرار التي لحقت بها جرّاء تلك السياسة التي انتهجها البيت الأبيض بحقّها. لكنها، في أيار/ مايو 2019، وبعد مرور عام على الانسحاب الأميركي من الاتفاق، دَشّنت سياسة «الردّ المتدرّج» على انتهاكات واشنطن، فبدأت تقليص التزاماتها بالاتفاق عبر خمس خطوات يفصل بين كلّ واحدة والأخرى ستون يوماً، مُعلِنةً في كلّ مرة أنها على استعداد للتراجع عن تلك الإجراءات في حال عودة أميركا إلى الاتفاق ورفع العقوبات، أو في حال قيام الدول الأوروبية بتقديم حزمة مُحفّزات اقتصادية تسمح لإيران بمزاولة نشاطها المالي والتجاري على الصعيد الخارجي.في مطلع عام 2020، كانت طهران قد أتمّت الخطوات الخمس المذكورة وهي: (1) وقف بيع منتجاتها من اليورانيوم المخصّب والماء الثقيل، بما يُمكّنها من حيازة كمّيات تتجاوز السقف الذي حَدّده الاتفاق النووي بـ300 كيلوغرام لليورانيوم المُخصَّب و130 طنّاً للماء الثقيل؛ (2) رفع القيود عن نسبة تخصيب اليورانيوم التي نصّ عليها الاتفاق بـ3.67%، وربط مستوى التخصيب باحتياجات البلاد، إذ إنها بدأت التخصيب في حينه بنسبة 5%؛ (3) تشغيل أجهزة طرد مركزي متطوّرة، بعد أن كان الاتفاق يَحظر عليها استخدام سوى الجيل الأول من هذه الأجهزة، كما تحلّلت في هذه الخطوة من القيود التي وضعها الاتفاق على الأبحاث والتنمية في المجال النووي؛ (4) تجديد العمل في مفاعل فوردو الذي تمّ إيقاف العمل فيه بموجب الاتفاق؛ (5) التراجع عن كلّ التزاماتها في مسائل «قدرة ونسبة التخصيب، كمّية المواد المُخصَّبة، الأبحاث والتطوير».
لم تفلح خطوات إيران الخمس في حلحلة أيٍّ من حلقات الحصار الاقتصادي الذي واصلت إدارة ترامب فرضه على طهران، ما دعا البرلمان الإيراني، المحسوب على التيار المتشدّد في البلاد، إلى البدء في مطلع تشرين الأول/ أكتوبر بمناقشة قانون «الإجراءات الاستراتيجية لرفع العقوبات»، والذي يتضمّن تصعيداً نووياً جديداً على عدّة مراحل. وقد ساهم اغتيال العالم النووي، محسن فخري زاده، في أواخر الشهر نفسه، في تعجيل المناقشة والتصويت على القانون. وبعد إقراره في مجلس صيانة الدستور، أصبحت حكومة الرئيس حسن روحاني ملزَمة بتنفيذه على الرغم من الرفض العلني الذي أبدته له، لتشرع مطلع عام 2021 في الخطوة الأولى، التي تضمّنت رفع تخصيب اليورانيوم إلى 20%، وهي أعلى نسبة تخصيب وصلت إليها إيران قبل توقيع الاتفاق النووي.
ترافقت موجة التصعيد النووي الإيراني الأخيرة مع اقتراب تولّي جو بايدن مهامه كرئيس للولايات المتحدة، وهو الذي كان قد وعد خلال حملته الانتخابية بعودة بلاده إلى الاتفاق النووي، مشترطاً امتثال إيران للقيود كافة التي نصّ عليها هذا الاتفاق، لكن هذه الأخيرة ترفض ذلك الشرط، وتقول إن واشنطن هي التي انسحبت، وهي التي يجب أن تعود أولاً، كما أنها لا تفتأ تؤكّد أن تفسيرها للعودة الأميركية ينحصر في أن «تُرفع كلّ العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب على إيران منذ انسحابها من الاتفاق»، وفي المقابل تبدي استعدادها لتنفيذ التزاماتها «بعد ساعة على رفع أميركا لتلك العقوبات» بحسب روحاني.
تبرز دعوات أميركية إلى العمل على صياغة اتفاقية مؤقتة في حال عدم العودة السريعة إلى الاتفاق النووي


أمام الشرط والشرط المضادّ، وعلى ضوء ما تَقدّم سرده عن حجم العقوبات الأميركية المفروضة على طهران، وكمّية التغييرات التي أجرتها إيران على برنامجها النووي، تَبرز مقاربة مفادها أنه «لو تَوفّرت الإرادة الأميركية والإيرانية المشتركة للتنفيذ المتزامن لهذين الشرطين، فإن القدرة الفنية على التنفيذ لن تتوفّر لكلا الجانبين، وهذا بدوره يدفع للقيام بصفقة على قاعدة (الأقلّ مقابل الأقلّ)، وذلك على غرار تجربة اتفاق (جنيف) الذي جرى بين طهران ومجموعة الـ 5+1 في تشرين الأول/ نوفمبر 2013، قبل التوصّل إلى الاتفاق النووي في تموز/ يوليو 2015».
في منتدى سياسي عقده «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، مطلع كانون الثاني/ يناير 2021، رَجّح دينيس روس، الذي عمل مساعداً للرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، أن «تساهم صفقة (الأقلّ مقابل الأقلّ) في كسر الجمود الحاصل بين واشنطن وطهران»، مقترحاً أن «تتضمّن هذه الصفقة تقليص إيران لمخزونها من اليورانيوم المنخفض التخصيب من 2600 كيلوغرام (ما يقرب من اثني عشر ضعف ما تسمح به «خطّة العمل الشاملة المشتركة») إلى 1000، ووقف تخصيب اليورانيوم بمعدّل نقاء يصل إلى 20%، وتفكيك سلسلتين من أجهزة الطرد المركزي المُتقدّمة. في المقابل، تسمح الولايات المتحدة لإيران بالنفاذ إلى بعض حساباتها المُجمَّدة في الخارج، الأمر الذي من شأنه أن يُخفِّف الضغوط على البلاد من دون رفع نظام العقوبات الأميركية». على النغمة نفسها أيضاً، عزفت مجلة «نيويورك تايمز» الأميركية، إذ اعتبرت أن «من الأفضل للأطراف العمل على صياغة اتفاقية مؤقتة في حال عدم العودة السريعة للاتفاق النووي»، مشيرة إلى أن «إيران، بموجب مثل هذه الاتفاقية، ستكون ملزَمة بالتخلّي عن جزء ذي مغزى من التطوّرات التي وصل إليها برنامجها النووي حالياً مقابل تخفيف جزئيّ للعقوبات، لا سيما منحها القدرة على الوصول إلى بعض عائداتها النفطية المُجمّدة الآن في حسابات مصرفية خارجية». بدوره، يعتقد الخبير الإيراني في الشؤون الدولية، نوذر شفيعي، أن «الرئيس الأميركي، جو بايدن، سيعتمد استراتيجية الأقلّ في مقابل الأقلّ، لأنه من الناحية العملية ربط عودته إلى الاتفاق النووي بشروط»، لافتاً في حديثه إلى وكالة «إيسنا» الإيرانية إلى أن «بايدن، وفق تلك الاستراتيجية، سيعطي طهران امتيازات أقلّ، وفي المقابل يجب على طهران تقليص أنشطتها النووية».
الجدير ذكره أن مقترح صفقة «الأقلّ مقابل الأقلّ» لا يتنافى مع تصوّر قَدّمه جايك سوليفان، مستشار الأمن القومي لبايدن، في منتصف حزيران/ يونيو 2020، أي قبل أن يُرشَّح لهذا المنصب، بهدف الأخذ به في حال تسلّم الديموقراطيين زمام الأمور في البيت الأبيض، وجاء فيه «نحن نرمي إلى التأكّد من إمكان التوصل إلى اتفاق في المدى القصير حول الملفّ النووي، لحمل إيران على العودة إلى الالتزام بالاتفاقية المشتركة، ومن ثمّ التوصّل إلى اتفاق طويل الأجل حول برنامجها النووي ووضعه على سكّة التفاوض». أمّا إيران، وإن لم تُقدِّم حتى الآن موقفاً من صفقة كهذه، إلّا أنّ بعض التصريحات من جانبها تُقرَأ من قِبَل مراقبين على أنها مرونة في هذا الإطار، وذلك لأنها جاءت من المسؤول الأول عن التفاوض في الملف النووي، وزير الخارجية محمد جواد ظريف، أثناء إحاطة قَدّمها إلى لجنة الأمن والخارجية البرلمانية، أكد فيها أن «سياسة إيران في مواجهة حكومة جو بايدن هي «خطوة مقابل خطوة»، ولن نقبل باتخاذ إجراءات مقابل بيان أو توقيع». ثمّ تَعزّزت هذه القراءة مع إبداء مساعد وزير الخارجية، عباس عراقتشي، «استعداد بلاده لإجراء حوار في مجموعة الـ5+1 حول طريقة وكيفية عودة جميع الأطراف إلى تنفيذ الاتفاق النووي»، وتأكيده في تغريدة كتبها بعد إجراء عدّة لقاءات مع المسؤولين الكويتيين أن «إيران لن تتفاوض إلّا على أسلوب التنفيذ». في السياق، يُشار إلى أن السفير الإيراني والمفاوض النووي السابق، سيد حسين موسويان، كان قد اعتبر، في مقالة في مجلة «نشرة العلماء النوويين»، أنه «بعد أن يصدر بايدن الأمر التنفيذي بالانضمام إلى الاتفاق النووي، يمكن لإيران والقوى العالمية الاجتماع والاتفاق على خطّة واقعية مع جدول زمني محدّد للإجراءات المتبادلة المناسبة».
على الرغم ممّا سلف من مؤشّرات إيرانية رسمية قد توحي لعدد من المراقبين بإيجابية طهران تجاه صفقة «الأقلّ مقابل الأقلّ»، إلّا أنّ هذه الرؤية تصطدم بتحذير أطلقه سفير إيران في الأمم المتحدة، مجيد تخت روانجي، عبر مجلّة «نيويورك تايمز» الأميركية في 27 كانون الثاني/ يناير 2021، مضمونه أن «أيّ وفاء جزئي بالتزامات الولايات المتحدة سوف يُقوّض ما وعد به بايدن. كما سيتمّ تفسير ذلك أيضاً على أنه عدم صدق من جانب الإدارة الجديدة، الأمر الذي سيُوفّر الذخيرة لمعارضي الاتفاق النووي لتخريب الدبلوماسية». كذلك، يعتبر الأكاديمي الإيراني، عماد أبشناس، أن «التنفيذ الناقص للاتفاق النووي لن يجدي نفعاً، وسيكون بنظر إيران مضيعة للوقت»، رابطاً، في حديثه مع «الأخبار»، الموقف في طهران بانتخابات الرئاسة التي تدقّ الأبواب. إذ يُرجِّح «ألّا تُقدِم حكومة روحاني على إعطاء أيّ تنازلات، لأن ذلك سيؤدي إلى خسارة فريقه للانتخابات، فضلاً عن انتهاء مستقبله السياسي بشكل كامل»، لافتاً إلى أن «عدم تقديم التنازلات من الممكن أن يسمح لروحاني على الأقلّ بالبقاء في الساحة السياسية للبلاد».
أخيراً، لعلّ من المهمّ الإشارة إلى أن التأرجح في تحديد ماهية الموقف الإيراني من اتفاق يقوم على مبدأ «الأقلّ مقابل الأقلّ»، لا يغني عن الجزم بأن أيّ مبادرة أميركية تجاه إيران، سواء كانت بالكلام أو بالفعل، ستنقل الكرة من ملعب واشنطن إلى ملعب طهران، وعندها يمكن تحديد مدى جدّية التمترس الإيراني حول المطالب المعلَنة بشكل رسمي هذه الأيام.