لم يترك رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، مجالاً للاجتهاد في تفسير الرسائل السياسية التي حملتها مواقف رئيس أركان الجيش أفيف كوخافي، حول رفض عودة العمل بالاتفاق النووي بين إيران والدول الستّ، ولو بصيغة مُحسَّنة، وإعداد خياراتٍ عملانية ستكون جاهزة أمام القيادة السياسية؛ إذ اعتبر أن مواقف القيادة الإسرائيلية مُوجَّهة إلى "الأعداء والأصدقاء على حدّ سواء". يراهن نتنياهو، من خلال ذلك، على التأثير في قرارات طهران وواشنطن وتوجّهاتهما، لكنه بهذا يكرّر اللعبة الفاشلة ذاتها التي اعتمدها خلال مرحلة ما قبل الاتفاق النووي عام 2015، واستند فيها إلى تكتيك "أمسكوني... وإلّا" في محاولة للعب دور المجنون الذي قد يقلب الطاولة، من دون أن يُحقِّق الأهداف المرجوّة.نبَع الفشل الإسرائيلي في حينه، ولا يزال، من أن الأعداء يدركون حجم التحوّلات التي استجدّت على معادلات القوّة، والحجم الحقيقي لهامش حرّية عمل تل أبيب ومداه وساحاته. والأهمّ أيضاً أنهم يدركون أن القيادة الإسرائيلية واعية لهذه المحدودية، التي تؤدّي بالضرورة إلى محدودية في النتائج والتأثير. ولعلّ من أبرز تجلّيات هذا الإدراك لدى نتنياهو نفسه، شكواه أمام الأميركيين من أن المشكلة تكمن في أن "طهران لا تُصدّق تهديداتنا"، في إقرارٍ منه بالعجز عن ردع إيران وثنيها عن خياراتها النووية. نقطة ضعف أخرى تواجه إسرائيل، وهي أن أساليبها مكرَّرة ومجرَّبة. فهي لم تنجح في السابق في إحداث تغيير جدّي في مسار التطوّرات، التي انتهت بالوصول إلى الاتفاق النووي عام 2015. وعلى ذلك، ليس ثمّة مفاجأة في المواقف الأخيرة، التي تبدو تقليدية ومتوقّعة وفي سياقها، مع التنبيه إلى أن صدورها على لسان كوخافي له خصوصية معينة.
تدرك إسرائيل تعاظم الخطر على أمنها القومي، بينما تضيق خياراتها وتُواجه تحدّي خنقها بطوق من الصواريخ المتطوّرة والدقيقة لأوّل مرة في تاريخها، مظلَّلاً بدولة نووية متطوّرة ترفض إضفاء أيّ شرعية على احتلال فلسطين. إزاء ذلك، بدا واضحاً أن نتنياهو أراد رسم الوجهة السياسية للرسائل العملانية التي وجّهها رئيس الأركان، وتحديد العنوان العام للاستراتيجية التي سيتّبعها الكيان العبري في المرحلة المقبلة. ويبدو أن لدى الثنائي، نتنياهو - كوخافي، مخاوف جديّة عكستها تقديرات وضعٍ أجرتها المؤسّسات ذات الصلة، انطلاقاً من حجم التصميم الذي تُظهره إيران، وهو ما قد يؤدّي خلال الأشهر المقبلة إلى تحوّلات على مستوى البيئة الاستراتيجية، وربّما أيضاً على مستوى توجّهات الإدارة الأميركية الجديدة التي سيكون عليها تحديد موقف حاسم في هذا الاتجاه أو ذاك، وهنا يكمن أكثر ما تخشاه مؤسّسات القرار في تل أبيب.
لقيَت مواقف كوخافي انتقادات حادّة من عدد من القادة العسكريين السابقين


في مضمون تهديدات كوخافي، التي أطلقها خلال كلمته في مؤتمر "معهد أبحاث الأمن القومي" لعام 2021، يمكن، في بعض الجوانب، لحظ معالم انقلاب على الموقف التقليدي للمؤسّستين العسكرية والاستخبارية، والذي كان يؤيّد اتفاق عام 2015، وهو ما ينبئ بتحوّل باتجاه التناغم مع الخطّ الذي ينتهجه نتنياهو. أمّا الحديث عن إعداد خطط عسكرية لمواجهة إيران النووية، فيُمثّل موقفاً تقليدياً ومتوقّعاً في المضمون والسياق والتوقيت. في الإطار العام، تعدّ مواقف كوخافي ونتنياهو ترجمة للاستراتيجية التي انتهجتها إسرائيل قبل الاتفاق النووي، وحاولت من خلالها التأثير في مجرى الأحداث، لكن النتيجة النهائية كانت الفشل. إلّا أن المستجد في هذا السياق أن اعتبار كوخافي العودة إلى الاتفاق، ولو بصيغة معدَّلة، "أمر سيّئ وخاطئ من الناحية العملياتية والاستراتيجية"، يتساوق مع رؤية نتنياهو، ويبدو أن من أهدافه، أيضاً، الإيحاء بوحدة موقف القيادتين السياسية والعسكرية، على عكس ما حصل قبل عام 2015.
في المقابل، أثارت مواقف كوخافي ردود فعل سلبية واسعة، أبرزها ما صدر عن الوزير المسؤول عن الجيش، وزير الأمن بني غانتس، الذي انتقدها بالقول إن "الحديث عن الخطوط الحمر يتمّ داخل الغرف المغلقة"، معرباً عن رفضه لهذا الأداء في مواجهة "إدارة جديدة في الولايات المتحدة، مهمّة وصديقة لإسرائيل، نعرف كيف نجري معها حواراً استراتيجياً صحّياً". واعتبر نائب رئيس الأركان السابق، اللواء يائير غولان، من جهته، أنه لا يمكن معالجة البرنامج النووي الإيراني بطريقة جراحية كما تمّ في العراق (عام 1981) وسوريا (عام 2007)، فيما طرح معلّقون مختصّون تساؤلات عن خلفية هذا التحوّل: هل هو "تغيير اتجاه؟ تصلّبٌ في الموقف إزاء الأميركيين، ومقابل إيران، أم قضية تتّصل بالموازنة" التي يطالب الجيش بزيادتها؟ مع ذلك، أشار المعلّق العسكري في "القناة 13"، ألون بن ديفيد، إلى أنه "انطلاقاً من أحاديث كثيرة مع القيادة الأمنية، يوجد إجماع وتوافق في الآراء على أن العودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015 هي تطوّر سيّئ وغير مرغوب فيه في إسرائيل"، وهو ما قد يكون تسريبه مقصوداً.
في ضوء ما تقدّم، تصبح واضحة خلفية ما أعلنه كوخافي من وضع خطط عملانية للجيش ستكون جاهزة في عام 2021، في حال قرّر المستوى السياسي تفعيلها. فما كشفه يعبّر عن الدور التقليدي للمؤسّسة العسكرية، التي من واجبها إعداد الخيارات العملانية وطرحها أمام المستوى السياسي. لكن ذلك لا يعني أن قرارات بهذا الحجم تتّخذها القيادة السياسية بمعزل عن التشاور والتقدير المشترك مع القيادة العسكرية، خصوصاً أن محور البحث يتركّز على الجدوى والكلفة، اللتين تعود إلى الجيش الكلمة الفصل في تقدير غالبية جوانبهما. كما أن إسرائيل لا تستطيع أن تتّخذ قراراً بهذا الحجم بمعزلٍ، ليس فقط عن ضوء أخضر أميركي، بل دعم ومشاركة، لأن حجم التحدّيات والمخاطر أكبر من قدرة تل أبيب.
في النتيجة، وبعيداً من المبالغات التي تندرج في إطار سياسة التهويل، لا شك في أن إسرائيل تُعدّ "دولة" إقليمية عظمى، على المستويين العسكري والتكنولوجي، لكن تسييل تلك القدرة وتحويلها إلى إنجازات تلبّي أولوياتها مسألة أخرى. ففي هذا السياق، تحضر مجموعة عوامل مُقيِّدة، على رأسها معادلة الكلفة والقدرة على تحقيق الأهداف العملانية المطلوبة. لذلك، فإن قدرتها على إحداث تغيير جذري في بيئتها الإقليمية لم تعد كما كانت عليه خلال عقود سابقة (حرب الـ67 نموذجاً)، وهو أمر ينطق به الواقع، ويقرّ به كبار قادتها العسكريين والسياسيين. وما لجوؤها إلى الولايات المتحدة في كلّ صغيرة وكبيرة تتّصل بالجمهورية الإسلامية ومحور المقاومة، إلا نتيجة الإقرار الصريح والمباشر بهذه الحقيقة.