موسكو | قبل يومين، عمّت التظاهرات المدن الروسية مطالبةً بالإفراج عن المعارض أليكسي نافالني الذي عاد إلى البلاد، الأسبوع الماضي، وفي جعبته وسائل التصعيد ضدّ حكومة بلاده: معرفته بنيّة السلطات اعتقاله فور دخوله الأراضي الروسية، دعاية "التسمُّم" الذي تعافى منه للتو، وثائقي يكشف "خبايا قصر بوتين"، دعواتٌ إلى غضب شعبي يتزامن مع استنفار الغرب. في البداية، سارت الأمور كما خُطِّط لها، فخرج أنصار نافالني، في تظاهرات حاشدة، متجاهلين التحذيرات الصارمة التي أطلقتها السلطات الروسية، واشتبكوا في عدد من المدن مع رجال الأمن، ما أسفر عن وقوع إصابات، واعتقال أكثر من ألفي محتج. ورغم أنّه جرى الإفراج عن معظم المعتقلين في اليوم التالي، إلّا أنّ الغرب وجد فيهم "أداة" لزيادة الضغط على الحكومة الروسية. ومن هذا المنطلق، جاءت دعوة وزارة الخارجية الأميركية السلطات الروسية إلى "إطلاق سراح جميع المحتجزين بسبب ممارستهم حقوقهم العالمية"، وإلى "الإفراج الفوري وغير المشروط عن نافالني". كما حثّت موسكو على "التعاون الكامل مع التحقيق الدولي في تسميم نافالني". وأدانت بشدّة استخدام ما وصفته بـ"التكتيكات العنيفة ضد المتظاهرين والصحافيين في روسيا". الوزارة الأميركية رأت، أيضاً، أنّ الحكومة الروسية تسعى إلى "قمع الحق في التجمّع السلمي وحرية التعبير، وتهديد منصات التواصل الاجتماعي، واعتقال المشاركين المحتملين بشكل استباقي". الأمر ذاته كرّرته وزارة الخارجية الكندية، التي قالت في تغريدة على موقع "تويتر"، إنّ "كندا تشعر بقلق عميق إزاء اعتقال متظاهرين وإعلاميين في أعقاب الاحتجاجات السلمية في روسيا". وأضافت: "نحضّ السلطات الروسية على احترام حقوق الإنسان والإفراج الفوري عن الأشخاص المعتقلين". وفي حين اعتبر وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان أنّ "موجة الاعتقالات التي شهدتها روسيا السبت تشكّل انحرافاً استبدادياً ومساساً لا يحتمل بدولة القانون"، أعلن الاتحاد الأوروبي أنّ وزراء خارجيته "سيناقشون اليوم (الإثنين) مسألة فرض عقوبات جديدة على روسيا في حال لم تفرج عن نافالني".
من المرتقب استدعاء الخارجية الروسية السفير الأميركي في الساعات المقبلة


التظاهرات التي جرى الحديث عنها على أنّها "هزّة" للنظام الروسي، لم تختلف عن سابقاتها التي كانت قد دعت إليها المعارضة في السابق، ولكنّها تُقرأ على أنّها "محطة" من سلسلة الضغط السياسي الذي يمارسه نافالني. ففي عام 2019، شهدت البلاد تظاهرات أثبتت أنّها "ضعيفة نسبياً"، ولم تقدر على التأثير في المسار السياسي الروسي. وبالتالي، يبدو أنّ الزخم المتجدّد الذي وضعه نافالني، جاء بهدف محاولة الحصول على حصة وازنة في الانتخابات التشريعية المرتقب إجراؤها في الخريف المقبل. وفي هذا الإطار، يرى مراقبون أنّ المعارضة الروسية حاولت تكثيف تحرّكاتها على الأرض مع تسلّم جو بايدن للرئاسة في واشنطن، في محاولة لتشجيع الولايات المتحدة على الانخراط أكثر في دعمها، خصوصاً أنّ هذا الدعم يتناسب مع سياسة الحزب الديموقراطي الذي عكف سابقاً على تضخيم الخطر الروسي، حتى بات يوازي الخطر الصيني. وفي حين أنّ هذه التظاهرات هي جزء من الحراك السياسي الداخلي بالدرجة الأولى، فإنّ عمل المعارضة في روسيا لطالما عُرف باتصاله بالمحاولات الغربية للتخلّص من الرئيس فلاديمير بوتين، عبر منظّمات المجتمع المدني والتركيز على اجتذاب الشباب الروسي.
وربطاً بالتطوّرات الأخيرة، تُرجم هذا "التدخّل" عبر قيام السفارة الأميركية في موسكو بنشر خرائط للتظاهرات في كلّ المدن التي شهدتها، الأمر الذي أثار "توجّساً" روسياً ممّا إذا كان هذا العمل يعبّر عن "توجيهات أو أوامر عمليات ميدانية للتحرّك". وقد أعربت وزارة الخارجية الروسية عن هذا التوجّس، عبر دعوة الإدارة الأميركية إلى "الانشغال بمشاكلها الخاصة، بما في ذلك الانقسام الناجم عن الظلم الاجتماعي وعدم المساواة في المجتمع الأميركي". كذلك، أكدت الوزارة أن "على سفارة الولايات المتحدة في موسكو تقديم توضيحات بشأن نشر معلومات على موقعها تحدّد مواقع التظاهرات"، لافتة إلى أنّها ستستدعي الدبلوماسيين الأميركيين للتحقّق من الأمر. وتساءلت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، عبر موقع "فايسبوك"، عمّا إذا "كانت هذه الخطوة هي عبارة عن تعليمات يتم تقديمها إلى المُحتجّين من السفارة، وهي معطيات لم يفصح عنها حتى منظّمو الاحتجاجات".
من جهته، اتّهم المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، السفارة الأميركية بـ"التدخّل في شؤون البلاد الداخلية، عبر منشورات تدعم التظاهرات"، مؤكّداً أنّ روسيا "مستعدّة لإظهار مرونة في التعامل مع الولايات المتحدة لكن ليس إلى الأبد، ومن دون وقاحة أو تجاوز للخطوط الحمر". وأشار بيسكوف إلى احترام موسكو جميع وجهات النظر "مع رفض تنظيم احتجاجات غير مشروعة"، مشدّداً على أنّ ما نشرته السفارة الأميركية عن الاحتجاجات "غير لائق".
وفي حين يُرتقب أن يتمّ استدعاء السفير الأميركي لدى موسكو إلى وزارة الخارجية الروسية، في الساعات المقبلة، لتقديم توضيح بشأن دعم واشنطن للتظاهرات غير المرخّص لها، يبدو أنّ منسوب التوتّر سيرتفع، وقد أخذ بالفعل منحى التصعيد إلى مواجهة روسية - أميركية، كان الرئيس الديمقراطي جو بايدن قد عقد أمره على حدوثها، وربما بدأها من قلب العاصمة موسكو.