كان المشهد استثنائياً وتاريخياً؛ البعض وجده مثيراً للسخرية، والبعض الآخر صادماً: أحد مقتحمي مبنى «الكابيتول» في واشنطن يجلس على كرسي رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، واضعاً حذاءه على الأوراق المبعثرة على المكتب؛ وفي إحدى الزوايا، منصّة تحمل الختم الذهبي للكونغرس منتزعة من مكانها، ووثائق مؤطّرة أزيلت من على الجدران، وجرى تمزيقها؛ وفي الممرّات، مقتحمون يحملون لافتات كُتب عليها «ترامب رئيسي»، وأعلام الكونفدرالية. ثمّ في مكان آخر، موظَّفون في الكونغرس تحصّنوا تحت مكاتبهم وخلف كراسيهم، بينما عناصر الشرطة يسعون إلى صدّ المهاجمين من كلّ حدب وصوب، في انتظار حضور "الحرس الوطني" والعملاء الفدراليين، الذين لم يظهروا قبل حلول المساء. ما سبق لا يختصر موقعة الكونغرس، التي جرت بعد ظهر الأربعاء في السادس من كانون الثاني/ يناير. المشهد أكبر من ذلك. فقبل أقل من ساعة من اقتحام مبنى "الكابيتول"، كان الرئيس المنتهية ولايته، دونالد ترامب، يتوجّه إلى مؤيّديه، بالقول: «سيتعيّن علينا القتال بقوّة أكبر». طلب منهم أن يسيروا من البيت الأبيض إلى "الكابيتول" لـ«إنقاذ ديموقراطيّتنا». حتّى إنّه قال إنه سيذهب معهم، لكن بالطبع كان ذلك مجرّد وعد لم تكن لديه نيّة للوفاء به. اذهبوا إلى الكونغرس «بسلام ووطنية»، قال لهم. وبالفعل، بعد دقائق، سقطت الحواجز خارج المبنى، وكان مؤيّدو الرئيس يتهيّأون لاقتحامه، فيما احتلّ بعضهم منصّات أقيمت لحفل تنصيب جو بايدن، ورفعوا لافتة كتب عليها «نحن الشعب سنُخضع دي سي (واشنطن). لدينا القدرة على ذلك».
الجمهوريون الذين فشلوا في قلب نتيجة الانتخابات، كانوا «ضعفاء» و«مثيرين للشفقة»، وقد سمحوا للديموقراطيين بتدمير البلاد... هذا ما دأب ترامب على تكراره منذ خسارته في الانتخابات الرئاسية في الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر. هو حضّ نائبه السابق المخلص، وصرخ بالحشد من على منصّة أُقيمت على مسافة من البيت الأبيض، قائلاً: «مايك بنس يجب أن يتحرّك من أجلنا، وإذا لم يفعل، فسيكون هذا يوماً حزيناً لبلدنا». ولكن بينما كان يتحدّث، قفز بنس من القطار، وللمرّة الأولى، فعل عكس ما قاله له رئيسه. حصل ذلك خلال جلسة مشتركة لمجلسَي النواب والشيوخ، عُقدت للتصديق على انتخاب بايدن رئيساً للولايات المتحدة. هنا، أيضاً، برزت مواقف استثنائية: نوّابٌ جمهوريون قدّموا اعتراضاً على نتائج انتخابات أريزونا، وبنسلفانيا، قابلهم بنس وزعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، بمحاولة لوضع حدّ لتحرّكهم... هذان الاثنان أرادا، مع معظم أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين، القفز من قطار ترامب، قبل أن يصل إلى محطّته الأخيرة، في محاولة لوضع حدّ لتوهّمه بأنّ الرئاسة ستُعاد إليه، بعد الهزيمة الانتخابية. سعى ماكونيل، الذي لطالما اتّسقت مواقفه مع مواقف ترامب، إلى منع الاعتراضات، مشيراً إلى أنّ نتائج الانتخابات ليست حتّى متقاربة. وقال قبل وقت قصير على بدء أعمال العنف: «الناخبون والمحاكم والولايات قالت كلمتها. إذا قمنا بنقضها، فسنُلحق الضرر بجمهوريتنا إلى الأبد». كذلك، أضاف إنّه «في حال أُبطلت نتيجة الانتخابات استناداً إلى مجرّد ادّعاءات من الخاسرين، فسيدخل نظامنا الديموقراطي في دوامة قاتلة». لم تكن كلماته كافية، فقد واصل عدد من النواب الجمهوريين اعتراضاتهم. إلّا أنّ الكونغرس رفض الاعتراض الأول على فوز بايدن في أريزونا، كما رفض الاعتراض الثاني على فوزه في ولاية بنسلفانيا. وبين هذا وذاك، توقّفت جلسة التصديق على انتخاب بايدن لساعات بسبب اقتحام المبنى، ثمّ استؤنفت أمس بعد إخلائه من المتظاهرين. فكان أن تراجع عدد من أعضاء مجلس الشيوخ عن معارضتهم السابقة.
جرى التصديق على انتخاب بايدن وأزيلت آخر العقبات من أمامه


في المحصّلة، جرى التصديق على انتخاب بايدن رئيساً، وبالتالي أزيلت آخر العقبات التي خلقها ترامب أمامه قبل تبوّئه منصبه. ولكن ذلك لن يمحي الصوَر التي التُقطت من داخل مبنى "الكابيتول" العريق. بل إنّها ستؤرّخ ما أبرزته وسائل الإعلام الأميركية على أنّه «بعضٌ من مظاهر وصول هجوم دونالد ترامب على الديموقراطية الأميركية إلى أوجه»، واصفة مؤيّديه الذين اقتحموا الكونغرس بـ«مشاغبي ترامب» و«جنود ترامب» وبـ«الإرهابيين» و«المتمرّدين».
النهار كان طويلاً وحافلاً، و"الكابيتول" تحوّل إلى ساحة اشتباك بين «مشاغبي ترامب» والشرطة التي أطلقت الغاز المسيّل للدموع لوقف تدافع المقتحمين. لم تمرّ الواقعة من دون جرحى وقتلى، فقد توفيت امرأة متأثّرة بجروحها، بعدما أطلقت الشرطة النار عليها. كذلك، أفادت السلطات بأنّ ثلاثة آخرين ماتوا في «غرف الطوارئ» على مدار اليوم، في حين أصيب عدد من عناصر الشرطة. «جنود ترامب» هاجموا أيضاً الطواقم الإعلامية خارج المبنى، كما عثرت السلطات على قنابل أنبوبية خارج مكاتب اللجنة الوطنية للحزب الديموقراطي، واللجنة الوطنية للحزب الجمهوري، فضلاً عن زجاجة مولوتوف في "الكابيتول".
بتعبير بايدن، إنّ «نظامنا الديموقراطي يتعرّض لهجوم غير مسبوق». الرئيس المنتخَب رأى أنّ «هذا ليس اعتراضاً. إنه إخلال بالأمن وفوضى. ويكاد يصل إلى الفتنة. ينبغي أن يتوقف الآن». ووصف أحداث العنف بأنّها «تمرّد»، مطالباً سلفه بأن يتحدّث عبر التلفزيون الوطني ويطلب من أنصاره التراجع. وبالفعل، بعد وقت قصير على تصريحاته، نشر ترامب تسجيلاً مصوَّراً دعا فيه أنصاره إلى المغادرة، لكنّه كرّر اتهاماته التي لا تستند إلى أدلّة بتزوير الانتخابات. وقال: «يجب أن يحلّ السلام. لذا اذهبوا إلى بيوتكم. نحن نحبّكم، أنتم مميّزون جداً».
في النهاية، «حقّق ترامب ما هدّد به. فقد أوضح، منذ أشهر، أنّه كان مستعدّاً لإحداث مذبحة في النظام السياسي الذي رفعه إلى أقوى منصب، إذا قرّر التخلّي عنه»، وفقاً لجوليان بورجر في صحيفة «ذا غارديان» البريطانية. ولكن أحداث يوم الأربعاء كشفت عن جانب آخر، وهو أنّ الحزب الذي مكّن ترامب من الصعود، ثمّ خاف منه، أصبح محطَّماً ومنقسماً إلى درجة أنّ الجمهوريين خسروا مقعدَي مجلس الشيوخ في جورجيا.
«إنّه الجنّي البرتقالي، الذي ظلّ خارج القمقم لمدة أربع سنوات والذي عمِل على منح الجمهوريين كلّ أمنية، وهو لم يكن ليعود من دون أن يهدم جدران القصر، ويقلب أنصار الحزب ضدّه»، هذا ما كتبه بورجر، وما تردّد في أكثر من مرثية للحزب الجمهوري.



استقالات بالجملة
أعلنت وزيرة النقل الأميركية إيلين تشاو، أمس، استقالتها من منصبها، غداة اقتحام أنصار للرئيس دونالد ترامب مبنى الكابيتول، في أول خطوة من نوعها يُقدم عليها وزير في إدارة الرئيس الجمهوري المنتهية ولايته احتجاجاً على ما حصل. وقالت تشاو، في بيان نشرته على حسابها في موقع «تويتر»: «أعلن اليوم استقالتي من منصبي وزيرة للنقل»، مشيرة إلى أنّها اتّخذت هذه الخطوة لأنّ ما حصل في الكابيتول كان «حدثاً صادماً وكان من الممكن تجنّبه تماماً، وقد أزعجني كثيراً إلى درجة أنّني لا أستطيع تجاهله».
وتأتي استقالة تشاو بعدما ذكرت تقارير إعلامية أنّ نائب مستشار الأمن القومي الأميركي مات بوتينغر استقال لينضمّ إلى عدد آخر من المسؤولين المنسحبين من إدارة ترامب. وأفادت وكالة «رويترز»، نقلاً عن مصادر مطلعة، بأنّ اثنتين من كبيرات مساعدي السيدة الأميركية الأولى ميلانيا ترامب استقالتا، بينما يفكّر روبرت أوبراين، مستشار الأمن القومي، في الاستقالة.
واستقالت ستيفاني غريشام، كبيرة موظفي السيدة الأولى. ولم تذكر غريشام، التي أمضت عاماً في منصب المتحدثة الصحافية باسم البيت الأبيض، قبل أن تصبح كبيرة موظفي السيدة الأولى، ما إذا كانت استقالتها ردّ فعل على العنف في العاصمة، لكنّ مصدراً مطّلعاً على قرارها قال إن العنف كان القشّة التي قصمت ظهر البعير. كذلك، أفاد مصدران بأنّ ريكي نيسيتا، السكرتيرة الاجتماعية للبيت الأبيض، استقالت أيضاً، وكذلك سارة ماثيوس، نائبة السكرتير الإعلامي للبيت الأبيض. وقال مصدر إنّ هناك أيضاً أحاديث داخل البيت الأبيض عن أنّ كريس ليدل، نائب كبير الموظفين، قد يستقيل.
(الأخبار، أ ف ب، رويترز)