لندن | رفضت قاضية في المملكة المتحدة طلب الإفراج بكفالة عن جوليان أسانج، لحين النظر في استئناف تعتزم السلطات الأميركية تقديمه سعياً لنقض قرار سابق من المحكمة بردّ طلب تسليم تقدّمت به إلى لندن. ويأتي ذلك على الرغم من المخاوف المتزايدة بشأن صحّته، ورغم الضمانات التي عرضها فريق الدفاع لبقائه في البلاد حتى صدور حكم نهائي. وحتى لو ردّت المحكمة العليا طلب التسليم مجدّداً، فإنّ إطلاق سراح أسانج من محبسه البريطاني سيتركه عرضة للمطاردة ومحاولات التصفية من أجهزة الاستخبارات الأميركية ما لم تتوفر له حماية رسميّة من بلد ثالث.
رفضت قاضية بريطانية، أول من أمس، طلباً للإفراج عن جوليان أسانج بكفالة. وقالت فانيسا بارايسر، التي ردّت يوم الاثنين الماضي طلباً تقدّم به محامو الولايات المتحدة لتسليم أسانج إلى السلطات الأميركية، إنّها لن تقبل الكفالة التي قدّمها فريق الدفاع على أساس أنّه لا يزال لديه «الحافز» على الفرار، وأنها «من باب العدالة» تجد نفسها بحاجة إلى إعطاء الحكومة الأميركية فرصة للتقدّم باستئناف. ويخشى مؤسّس «ويكيليكس» على حياته من محاولات اغتيال أو اختطاف قد تقوم بها الأجهزة الاستخبارية الأميركية، بعدما أفشى ملايين الصفحات من وثائق رسميّة أميركية كشفت طرائق عمل الإمبراطورية المسربلة بالدماء والمؤامرات والاعتداء على حقوق الإنسان. ولذلك، كان قد التجأ إلى مقرّ سفارة الإكوادور في لندن، حيث بقي محاصراً لسنوات، حتى نيسان/ إبريل من العام الماضي، عندما طُرد من السفارة واعتقله البريطانيّون. وهكذا، سوف تستمرّ معاناة الرجل في سجن بلمارش (شمال لندن)، محبسه البريطاني المخصّص لعتاة المجرمين والمهرّبين والإرهابيين، إلى حين النظر في استئنافٍ تعتزم الولايات المتحدة تقديمه بشأن مذكّرة التسليم التي ردّتها المحكمة على أسُس صحّية وسيكولوجيّة محضة.
وذكرت بارايسر أنّ أسانج لديه «شبكات دعم ضخمة» لمساعدته على الاختفاء تحت الأرض، فور إطلاق سراحه، مستشهدة بمساعدة «ويكيليكس» لإدوارد سنودن على الفرار، في اللحظة الأخيرة، من براثِن الاستخبارات الأميركية عندما كان يقيم في هونغ كونغ، ونقله إلى روسيا حيث قُبل هناك لاجئاً سياسياً ولا يزال. ولذا، فهي ترى أسباباً جوهرية للاعتقاد بأنّه في حال أُطلق سراح أسانج، فإنّه لن يسلّم نفسه إلى المحكمة لمواجهة إجراءات الاستئناف. ومن هذا المنطلق، رفضت بارايسر كلّ عروض فريق الدفاع بإبقاء أسانج قيد احتجاز منزلي مع زوجته وأولاده في عنوان معروف للمحكمة، وكذلك القبول بارتدائه سواراً إلكترونياً ينقل موقعه لحظيّاً وبدقّة للسلطات الأمنيّة البريطانية. كذلك، امتنعت عن الأخذ بالبيانات التي جرى تقديمها بشأن تفشي فيروس «كورونا» داخل بلمارش، فيما أخذت بادعاء محامي الولايات المتحدّة بأنّ الأوضاع في السجن تحت السيطرة لتلك الناحية.
وصف خبراء قانون وأطباء قرار القاضية بالمتناقض مع موقفها السابق


خبراء قانون وأطباء في لندن وصفوا قرار القاضية بارايسر برفض الكفالة، بالمتناقض مع موقفها السابق لدى ردّها مذكّرة التسليم الأميركية على أساس أنّ الاحتجاز «المطوَّل» في ظروف اعتقال قاسية، كما في نظام السجون الأميركي، سيؤثّر على صحّته العقلية والسيكولوجية المتردّية وسيدفع به حتماً إلى الانتحار، وهو ما قال العديد من الأطباء وخبراء الأمم المتحدّة إنّه يحدث داخل سجن بلمارش نفسه. وإضافة إلى تهديد «كورونا»، تقول ستيلا موريس زوجة أسانج ــــ وأم أولاده ــــ إنّ زوجها يعاني من برد شديد داخل زنزانته، وإنّه يستخدم الكتب التي بحوزته لسدّ الشقوق التي يتسرّب منها هواء لندن القارس إلى داخل السجن.
وقد أعرب العديد من المتضامنين مع أسانج ومنظّمات حزبيّة وغير حكوميّة، عن شعورٍ بخيبة أمل عميقة إزاء موقف المحكمة، واعتبروه الأحدث ضمن سلسلة طويلة من التدابير العقابية غير المتناسبة التي اتّخذتها السلطات البريطانيّة ضدّ صحافيٍّ كبير قام بواجبه في نشر المعلومات من أجل الصالح العام. وعلى الرغم من ارتياح البعض منهم لموقف القاضية بارايسر السابق بردّ طلب التسليم الأميركي، إلّا أنّ القرار كان بمثابة يوم أسود في تاريخ الصحافة الاستقصائيّة وتعرية كاملة لكذبة حريّة التعبير وحكم القانون التي تتشدّق بها بريطانيا والولايات المتحدة. فالقاضية قبلت، بالفعل، في حيثيات قرارها بكل ادعاءات السلطات الأميركيّة التي تتّهم أسانج بممارسة التجسّس وإفشاء الأسرار ومساعدة مسرّبي الوثائق على اختراق أجهزة كمبيوتر فدراليّة، ورفضت مرافعة الدفاع بكلّيتها مستندة إلى مصادر إعلاميّة شريكة ومتواطئة في تشويه صورة الرجل (شبكة «سي ان ان»)، ومبرّرة خطوة الاستخبارات الأميركية بالتجسّس عليه، خلال فترة لجوئه إلى مقر سفارة الإكوادور في لندن. وقد أصدرت، في النهاية، قرارها برد طلب التسليم حصراً على أسُس تتعلّق بالحالة العقليّة والسيكولوجيّة للصحافي الأسير، ما يعني ببساطة أنّ أي «أسانج» آخر لا يعاني من التوحّد سيكون في طريقه الآن إلى سجن أميركي.
وتواجه شركة أمنية إسبانيّة خاصّة كانت تتجسّس على أسانج لمصلحة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، أثناء حمايتها لمقر سفارة الإكوادور في لندن، ملاحقة قضائية في مدريد، في حين اعتُقل مديرها ديفيد موراليس ــــ وهو عسكري إسبانيّ يميني متقاعد ــــ بتهمة القيام بنشاط غير قانوني ضدّ أسانج ومقرّ السفارة. فقد وفّرت الشركة، لحظيّاً للجانب الأميركي، مراقبة فيديو وصوتية على مدار الساعة، غطّت تقريباً كلّ شبر من المبنى الدبلوماسي، بما في ذلك حمّام النساء، وبما يتعارض مع واجبها المهني ومع ما يسمى بـ«القانون الدولي واتفاقيّة فيينا التي تنظّم العلاقات الدبلوماسية بين الدول). كذلك، أدان عديدون تقرير شبكة «سي ان ان»، الذي اعتمدته القاضية بوصفه ملفَّقاً بالكامل ومبنياً على معلومات مجتزأة مرّرتها الشركة الإسبانيّة لعملاء الاستخبارات الأميركية. وكانت الشبكة الإخباريّة المعروفة بعلاقاتها الوثيقة بـ«لانغلي» (المقر الرئيس لوكالة الاستخبارات في ولاية فرجينيا)، قد اتهمت أسانج بالتآمر مع الروس لتحويل سفارة الإكوادور في لندن، حيث كان محاصراً لسنوات، «إلى مركز قيادة للتدخّل في الانتخابات الأميركية ودعم انتخاب الرئيس دونالد ترامب والتأثير على سمعة المرشّحة المنافسة له حينها هيلاري كلينتون». وقد أعدّ التقرير أرتورو توريس راميريز، وهو ناشط إكوادوري يميني مشبوه يعمل مع منظّمة مجتمع مدني غير حكوميّة تموّلها وزارة الخارجيّة الأميركية والحكومة البريطانية. وفنّد دبلوماسي أكوادوري سابق في سفارة بلاده في لندن، تلك الادعاءات التي تضمّنها التقرير بالكامل، ونشرها للعموم على موقع إخباري معروف.
ومن المعلوم أنّ السلطات الأميركيّة بثّت عبر عملائها في وسائل الإعلام والصحف الكبرى (مثل «ذا نيويورك تايمز» و«ذي واشنطن بوست» و«ذا غارديان») تقارير عدّة استهدفت تصوير مؤسّس «ويكيليكس» على أنّه مجرم خطير وجاسوس وقرصان مواقع إلكترونية ومغتصب نساء مصاب بالعظمة. وقد قبلت القاضية البريطانية بعض هذه التقارير من دون تدقيق، كما شكّكت بوجود تجسّس على مقرّ السفارة الإكوادورية، ورفضت التعليق على القضية التي تنظر فيها المحاكم الإسبانية، وتفهّمت موقف الادعاء الأميركي كما هو، معتبرة أنه «لو كانت هناك مراقبة بالفعل، فإنّ دافعها التصوّر بأن السيد أسانج ما زال يشكّل خطراً على الأمن الأميركي القومي»، علماً بأنّ السلطات الأميركية والبريطانية رفضتا التعاون مع القضاء الإسباني بهذا الخصوص.