ربّما؛ كلمةٌ تكتنف من اللؤم ما يكفي لتُغيِّر حيوات أشخاص ومصائرهم. كأن عطب التجاهل الذي ألمّ بقضية جوليان أسانج لا يكفي، حتى يتلمّس بعض المتفائلين أملاً بتغيير مُحتمل في ظلّ الإدارة الأميركية المقبلة إزاء مؤسِّس «ويكيليكس» الذي طوى عقداً من الملاحقة والترهيب، وأخيراً الاعتقال. أملٌ يبدو أقرب إلى الوهم؛ فناظر البيت الأبيض الجديد ليس إلّا جو بايدن الذي وصف «عدوّ الشعب الأميركي»، قبل عشر سنوات، بـ»الإرهابي (الذي) يستخدم التكنولوجيا الحديثة». وريثُ باراك أوباما لن يكون أكثر «رأفةً» من رئيسه، إلّا إذا هو أراد أن يمضي بسياسة لا تهادن، في جانب منها، سياسات دونالد ترامب، أو بمعنى أدقّ إذا أصرّ على تبنّي الكيدية نهجاً يدمّر من خلاله ما راكمته إدارة هذا الأخير في غضون أعوام أربعة. لكن مَن يُعلِّق آمالاً على واشنطن، كمَن يرمي صنّارة في البحر المَيت.
بحلول نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2010، بدأ يتكشّف جانب من الوحشية الأميركية المفرطة. كان الوقت مثاليّاً لإطلاق دفعة تلو أخرى من الوثائق العسكرية وبرقيات الدبلوماسية الأميركية السرية، لإماطة اللثام عن بعض من الممارسات غير الدبلوماسية التي غُيِّبت، حتى لا تصير وصمةً ترخي بثقل تداعياتها على البلد المذكور. وثائقُ وإن تسبّبت بحرج لواشنطن عزّزته ارتدادات خفيفة على مستوى العالم، فهي لم تُغيّر في عالم غير طبيعي ما يُذكر، سوى أنها حوّلت حياة مَن أتاحها للجمهور إلى حبسٍ ضاق بزائره. انتهى الحال بجوليان أسانج، قبل سنة ونصف سنة، في سجن بريطاني للحالات الأمنية الخطيرة، بعدما تخلّت عنه إكوادور لينين مورينو. لم تكن تلك بداية القصة، ولم يفعل مورينو، الذي انقلب على كلّ شيء حتى ترضى عنه أميركا ومِن ورائها «صندوق النقد الدولي»، أكثر من المتوقّع من أمثاله. قبل الإكوادور ورئيسها، وقبل سجن «بلمارش» والمحاكمة التي استمرّت على مدى أشهر لتخلُص إلى تحديد يوم الرابع من كانون الثاني/ يناير المقبل موعداً لبتّ قرار تسليم مؤسّس «ويكيليكس» إلى الولايات المتحدة، بدأت ملاحقة أسانج باكراً مِن قِبَل السويد. وبينما كان العالم منشغلاً باستكشاف الوثائق المسرّبة، بدأت استوكهولم مناورة لتشتيت الانتباه عن قضية «ويكيليكس»، والتركيز على شخص ناشره، أسانج، المُتّهم بقضايا تحرّش جنسي واغتصاب، ما لبثت، في عام 2017، أن أسقطتها، لتعيد إحياءها مجدّداً في أعقاب اعتقاله العام الماضي، قبل أن يَخلص الادعاء العام السويدي، مرّة أخرى، إلى أن «الأدلة ليست قوية بما يكفي لتقديم لائحة اتهام».
كان أسانج مُدركاً لواقع أن إسقاط الادّعاءات السويدية في 2017 لن يحرّره


كان أسانج مدركاً لواقع أن إسقاط الادّعاءات السويدية في 2017 لن يحرّره، كما لن يسلّط الضوء على قضيّته المهمَلة في الإعلام. فهو قال يومها من على شرفة سفارة الإكوادور إن «الحرب الحقيقية قد بدأت الآن». استشرف مؤسِّس «ويكيليكس» معركةً تُشكّل بريطانيا والولايات المتحدة رأس حربتها، وخصوصاً أن الأولى كانت تنتظر على باب السفارة، مُتذرّعةً بـ»انتهاكه شروط الإفراج عنه بكفالة عام 2012» عبر لجوئه للاحتماء في مقرّ سفارة الإكوادور في لندن (في نهاية عام 2010، توجّه أسانج إلى بريطانيا وسلّم نفسه للشرطة التي أفرجت عنه بكفالة). على مدى سبع سنوات قضاها أسانج في مقرّ السفارة، ظلّ كابوس اعتقاله وترحيله إلى الولايات المتحدة يراوده. كابوسٌ أضحى واقعاً اعتباراً من نيسان/ أبريل 2019، يومَ اقتحمت «سكوتلاند يارد» مقرّ إقامته الموقّت، واقتادته إلى سجن «بلمارش» حيث مكث في حبس انفرادي. مهّد تخلّي الإكوادور عنه إلى إطلاق لندن محاكمة جنائية ربّما تنتهي بتسلم أسانج إلى الولايات المتحدة حيث يواجه، بموجب «قانون التجسّس» لعام 1917، 18 تهمة أفرجت عنها وزارة العدل الأميركية في أعقاب توقيفه، على خلفية ما نشره موقع «ويكيليكس» من أسرار ومعلومات خدشت الحياء الأميركي (بموجب معاهدة تسليم المطلوبين الأميركية ــــ البريطانية لعام 2003، تَقدَّم الادّعاء الأميركي بطلب لإجبار المملكة المتحدة على تسليم مؤسّس «ويكيليكس»، على رغم أن المادة الرابعة من المعاهدة المذكورة تنصّ على «عدم جواز التسليم في حال كانت الجريمة التي يُطلب من أجلها التسليم، جريمةً سياسية»). لاحقاً، وخلال حوار تلفزيوني معه، برَّر لينين مورينو قرار كيتو حرمان أسانج من حقّ اللجوء بـ»التصريحات العدائية والمهدِّدة لويكيليكس ضدّ الإكوادور، وتدخّله في الشؤون الداخلية لدول أخرى».

نهجٌ أميركي
قبل ثلاثة أيام من حلول يوم تنصيب دونالد ترامب في 20 كانون الثاني/ يناير 2017، أنهى باراك أوباما فترتَيه بإصدار عفوٍ رئاسي ستخرج بموجبه تشيلسي مانينغ، المتّهمة بـ»التآمر» مع «ويكيليكس» لنشر مئات آلاف الوثائق والبرقيات عالية السرّية، من سجن قاعدة فورت ليفنوورث العسكرية في ولاية كانساس، حيث أمضت سبع سنوات من عقوبتها المُحدَّدة بـ 35 عاماً (وهي أطول عقوبة لهذا النوع من التّهم). مع تسلُّم الإدارة الجديدة مهمّاتها، استؤنفت ملاحقة المجنّدة السابقة التي تعرّضت لضغوط هائلة للانقلاب على أسانج والشهادة ضدّ «ويكيليكس». كان هذا دأب إدارة ترامب التي لم يعجبها بأيّ حالٍ تخفيف حكم مانينغ، التي على رغم اعتقالها العقابي غير مرّة، إلا أنها رفضت الشهادة مجدّداً أمام هيئة محلّفين في القضية، عازية ذلك إلى كونها أجابت عن «كلّ الأسئلة الجوهرية المتعلّقة بإتاحتي المعلومات أمام الجمهور في عام 2010، في شهادة مستفيضة قدَّمتُها خلال محاكمتي العسكرية في عام 2013».
مع قرب انتهاء حقبة ترامب الذي مثّلت محاكمة أسانج في الولايات المتحدة «أولوية» بالنسبة إلى إدارته، ستنجلي قريباً سياسة جو بايدن إزاء هذه القضية. فإمّا أن يتابع مِن حيث انتهى سلفه، وإمّا أن يلغي التهم الـ 18 الموجّهة إلى مؤسِّس «ويكيليكس» بموجب «قانون التجسّس». وإن فعل، وهو أمرٌ مستبعد بالنظر إلى طبيعة الحكّام الأميركيين، يرسّخ بايدن نهجاً أرسته إدارة أوباما، حينما قرّرت، في عام 2013، «اتباع سابقة بعدم توجيه تهم إلى أسانج أو أيٍّ من الصحف التي نشرت الوثائق»، على حدّ تعبير أستاذ الصحافة في جامعة ماريلاند، مارك فيلدشتاين، على اعتبار أن التطبيق المتكافئ للقانون كان سيفرض على وزارة العدل مقاضاة وسائل الإعلام، ومنها تلك الأميركية، التي كان لها دور كبير في نشر الوثائق. أما قرار أوباما تخفيف عقوبة مانينغ، فيُعدُّ، بحسب موقع «إنترسبت»، مؤشراً آخر إلى أن ما فعلته إدارة ترامب مثّل انحرافاً، وليس سياسة ثابتة لا يمكن الرجوع عنها. لكن الموقف الذي أدلى به بايدن في مقابلة ضمن برنامج «ميت ذا برس» على شبكة «إن بي سي» في عام 2010، حين قال إن أسانج «إرهابي يستخدم التكنولوجيا الحديثة»، لا يمكن أن يكون مشجّعاً. على أيّ حال، استندت استنتاجات الرئيس المقبل إلى خلاصات مؤسَّستي الجيش والاستخبارات الأميركيتين؛ وفي حين اعتبرت الأولى أن أيّ تواصل مع «ويكيليكس» سيعرِّض صاحبه لخطر الاتهام بـ»التخابر مع العدو»، رأت الثانية أن معلومات الموقع تمثّل تهديداً لمصالح الجيش الأميركي ووزارة الدفاع «البنتاغون». تعليقاً على التسريبات الضخمة، قال وزير الدفاع، آنذاك، روبرت غيتس، «هل هذا محرج؟ نعم. هل سيتسّب بعواقب على مستوى السياسة الخارجية للولايات المتحدة؟ لا أعتقد».
أيُّ جريمةٍ هذه التي ارتكبها أسانج ليستحقّ عقوبة قد تصل إلى 175 عاماً استناداً إلى التهم الموجّهة إليه في أميركا؟ ألا تكفي عشر سنوات من الملاحقة والترهيب والإخضاع؟ عن ذلك، سيجيب اتّجاه المحاكمة في لندن الشهر المقبل. وإذا سار وفق المتوقَّع، ربّما تكون تلك نهاية مسيرة أسانج.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا