غالبية التحليلات التي تناولت عملية اغتيال العالم الإيراني، محسن فخري زادة، التي تحمل بصمات المخابرات الإسرائيلية، وربّما الأميركية أيضاً، جزمت أن بين أبرز أهدافها عرقلة جهود إدارة الرئيس المنتخب، جو بايدن، للعودة إلى اتفاق نووي ما مع إيران، تمهيداً لتطبيع العلاقات معها. لا ريبَ في أن إسرائيل، وفريق بنيامين نتنياهو تحديداً، سيفقدان بعد رحيل ترامب والمجموعة الأيديولوجية - العقائدية المحيطة به، «كنزاً استراتيجياً» بكلّ ما للكلمة من معنى، ذهب إلى حيث لم تتجرّأ أيّ إدارة أميركية سابقة في مجال التطابق الكامل مع سياسات الكيان العبري. وهي ستعمل، خلال الفترة المتبقّية لها في البيت الأبيض، بتنسيق كامل مع نتنياهو، على كيل ضربات موجعة أخرى لإيران وحلفائها إن تَمكّنت من ذلك. هذا هو معنى استقدام قاذفات «ب - 52» الاستراتيجية إلى المنطقة ودخول حاملة الطائرات الأميركية «يو.أس.نيميتز» وقطع بحرية أخرى إلى مياه الخليج قبل عملية اغتيال العالم الإيراني. هي رسالة تهديد واضحة إلى طهران من مغبّة أيّ ردّ على هذه العملية وأيّ عمليات أخرى محتملة. غير أن السؤال الذي يفرض نفسه على ضوء هذه الوقائع هو التالي: على ماذا تراهن إسرائيل عندما تلجأ إلى خطوات تصعيدية خطيرة تتناقض مع التوجّهات المُعلَنة لإدارة بايدن حيال إيران؟ ألا تخشى، كما يعتقد البعض، أن تعتبر الإدارة الجديدة خطواتها بمثابة عرقلة مقصودة لسياساتها، وأن تكون لذلك تبعات جدّية على علاقاتها الحيوية مع الولايات المتحدة؟ أيّ حكومة إسرائيلية، مهما كانت درجة تطرّفها وجموحها، والمؤسّسة الأمنية - العسكرية ذات التأثير الوازن في عملية صناعة القرارات الاستراتيجية، تدركان الطبيعة المصيرية للعلاقات العضوية الأميركية - الإسرائيلية بالنسبة إلى مستقبل الكيان، وتنطلقان من الحرص الشديد على متانتها عند اتخاذ قرارات بحجم اغتيال من لُقّب بـ«أبي المشروع النووي الإيراني». والرهان في مثل هذه الحالة هو على أن يوظِّف الشرطيّ «الجيّد»، أي بايدن، ما تقوم به إسرائيل ضدّ إيران كـ«شرطيّ سيّئ»، في مفاوضاته مع الأخيرة لحملها على تقديم أكبر قدر ممكن من التنازلات. النخبة السياسية والعسكرية الإسرائيلية معنيّة باستمرار بالتأكيد أن الكيان الصهيوني هو العصا الغليظة في يد الإمبراطوريات الغربية في مواجهة دول المنطقة وشعوبها، أو «قلعة الحضارة في مقابل البربرية» كما قال تيودير هرتزل، مؤسّس الحركة الصهيونية، في كتابه الشهير «الدولة اليهودية».
من الصحيح أن العلاقات الأميركية - الإسرائيلية انتقلت منذ عقود من التحالف الاستراتيجي إلى ما يشبه التداخل العضوي، بفضل التماهي الثقافي - الأيديولوجي بين النخب الحاكمة. غير أن التحوّلات الكبرى التي شهدها العالم والإقليم في موازين القوى، وما يترتّب عليها من تغيّر في أولويات الإمبراطورية الأميركية، ومن تراجع لأهمية الشرق الأوسط مقارنة بتلك المستجدّة لشرق آسيا والصين، تفرض على قادة الكيان جهداً مضاعفاً لتثبيت دور إسرائيل كحاجة استراتيجية للحفاظ على منظومة الهيمنة الأميركية والغربية في الإقليم ضدّ خصومها. هي مدركة أن سعي أوباما إلى «فكّ الاشتباك مع إيران» عبر توقيعه للاتفاق النووي معها اندرج ضمن تَغيّر الأولويات المشار إليه، وأن الدوافع نفسها تُفسّر إرادة بايدن وفريقه التوصّل إلى تفاهمات مع هذا البلد. لكنها تثق أيضاً بأن بايدن وفريقه، الذي يضمّ في نواته الصلبة أنصاراً حقيقيين للصهيونية ولكيانها، ككمالا هاريس وأنطوني بلينكن، سيتمسّكون بقوة بما سَمّته هاريس، في مداخلة لها أمام «أيباك»، «التفوّق النوعي العسكري لإسرائيل» على جوارها. من المهمّ التذكير أيضاً بأن بلينكن، عندما كان مستشاراً لبايدن خلال رئاسته لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، هو مَن أقنع الأخير بتأييد الحرب على العراق، على عكس تيار واسع في الحزب الديمقراطي كان من معارضيها. بلينكن كان، كذلك، الملهم الأساسي لخطّة تقسيم العراق إلى 3 دول، والتي طرحها بايدن في السنوات التي تلت الحرب. إذا عدنا اليوم إلى جميع المعطيات والمعلومات التي كُشفت عن خلفيات الحرب، وما تبعها من عملية تفكيك لمؤسسات الدولة العراقية الأمنية والعسكرية، ومن خطط لتقسيم هذا البلد على أسس طائفية وعرقية، فإن ما لم يعد قابلاً للشك هو أن إسرائيل ومحافظيها الجدد في واشنطن هم مَن يقف خلف هذه الخيارات التي رَوّجوا لها منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي. لماذا أيّد بلينكن الحرب على العراق ونادى بتقسيمه مع أنه ليس من المحافظين الجدد، وعلى الضدّ من قطاع لا يستهان من حزبه الديمقراطي وقياداته؟ التفسير الوحيد، والذي يتضح من متابعة مجمل مواقفه خلال مسيرته السياسية، هو انحيازه المتشدّد إلى إسرائيل.
النخبة السياسية - العسكرية الصهيونية تعرف أن لديها حلفاء موثوقين في الإدارة الجديدة، بِمَن فيهم الرئيس نفسه، الذي لا يحبّ نتنياهو ولكن المرتبط عاطفياً بالصهيونية وكيانها، وأنها قادرة على الاستناد إلى هذه الأسس الصلبة لأداء دور «الشرطي السيّئ»، عبر توجيه ضربات قاسية إلى إيران قبل تسلّم الإدارة الديمقراطية لمهامّها. والرهان هو على أن تسمح هذه الضربات، التي تندرج في إطار الحرب الهجينة التي شُنّت على الجمهورية الإسلامية وحلفائها في السنوات الماضية تحت مسمّى «الضغوط القصوى»، بإضعاف قوتها وثباتها، وتَحمِلها على تقديم تنازلات لا تنحصر ببرنامجها النووي بل تتعدّاه إلى برنامجها الصاروخي وعملية تطوير قدراتها العسكرية وحلفائها. في حال نجاحهم في ذلك، يكون قادة الكيان قد كَرّسوا دوره الوظيفي في خدمة الاستراتيجيات العامة للقوى الغربية، وهو السبب المركزي لكلّ ما تَمتّع به من دعم ورعاية منذ أن زُرع في قلب المنطقة.
يكتسب هذا الدور أهمية مصيرية بالنسبة إلى جميع النخب المسيطرة في الكيان منذ نشأته. لقد كشف الأرشيف الإسرائيلي أن موشي دايان وشمعون بيريز دفعا إلى تصعيد الاعتداءات ضدّ الجيش المصري في بداية خمسينيات القرن الماضي لاكتساب دعم فرنسا التي كانت ترى في مصر الناصرية المُحرّض الأول على الاستقلال في المغرب العربي الخاضع للاستعمار الفرنسي. بيريز قال خلال محاضرة في أحد «الكيبوتزات» إن «كلّ رصاصة تُوجّه إلى رأس جندي مصري تَرفع من قيمة أسهمنا في باريس». أحد أهداف عدوان 1967 على مصر كان توجيه ضربة للمشروع الناصري نيابة عن الولايات المتحدة، العاجزة عن ذلك نتيجة لتورّطها في حرب فيتنام آنذاك. انتقلت العلاقة الأميركية - الإسرائيلية إلى مستوى التحالف الاستراتيجي بعد هذا العدوان. منطقٌ وظيفي مشابه يحكم اليوم سلوك إسرائيل، التي تحاول إقناع بايدن، حسب نيك باتون والش، محرّر شؤون الأمن الدولي في موقع «سي. أن. أن»، بأنها «قادرة على أداء خدمات مفيدة وعدوانية لمصلحة البيت الأبيض. هي لا تحول دون قيام بايدن بدور الشرطي الجيّد عندما تُظهر أنها تستطيع قتل أحد أثمن موارد إيران البشرية في ضواحي طهران الآمنة».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا