لندن | فساد الطبقة الحاكمة في غواتيمالا ليس بالأمر الجديد. هذا البلد الصغير في أميركا الوسطى لديه ماضٍ مغمّس بالدماء وقهر الفقراء، يمتدّ لِستّة وستين عاماً، منذ أن أطاحت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، في عام 1954، بداعية الإصلاح الزراعي، الرئيس (الليبرالي) جاكوبو أربنز، في انقلاب عسكري أعقبه تولّي الجيش الذي درّبته ووجّهته الولايات المتحدة السلطة لأربعين عاماً. حقبةٌ شهدت خلالها البلاد واحدة من أسوأ مذابح السكّان الأصليين - معظمهم من هنود المايا - سقط خلالها أكثر من 200 ألف قتيل، فيما نُقلت السلطة، منذ عام 1996، إلى أحزاب برجوازية يمينية يقودها مدنيّون أثرياء موالون لواشنطن، تبادلوا المناصب من دون انقطاع، عبر انتخابات يشوبها دائماً كثير من شراء الأصوات، والتحالفات الطبقية المشبوهة التي تقوم على تمرير صفقات الفساد. وعلى الرغم من إنهاء كلّ أشكال المقاومة المسلّحة، وتوقيع اتفاق سلام مع السلطات قبل 24 عاماً، إلّا أن الطبقة العاملة والفلّاحين استمرّوا في تنظيم الاحتجاجات والتظاهرات، بين الحين والآخر، ضدّ مظاهر الفساد والرؤساء الفاسدين، بينما كانت تقمعها السلطات دائماً بالقوّة. لكن موجة الاحتجاجات الجديدة التي عمّت العاصمة - غواتيمالا سيتي - ومدناً أخرى، الأسبوع الماضي، أثارت قلق المراقبين من إمكان دخول البلاد في خريف غضب عاصف، خلال الأشهر القليلة المقبلة، بعدما بدا أن الغواتيماليين، وخصوصاً الجيل الجديد منهم، فقدوا كلّ قدرة على الاحتمال، وأنه لم يتبقَّ لديهم ما يخسرونه في ظلّ سياسات حكومة الرئيس أليخاندرو غياماتي المجحفة. وكان هذا الأخير قد تولّى السلطة في كانون الثاني/ يناير، بعد انتخابات باهتة شارك فيها ثلث الناخبين فقط، واعتبرها معظم المواطنين سباقاً عبثياً بين ممثلين للنخبة السياسية الفاسدة ذاتها، الخاضعة لواشنطن.
وبعدما أدّى إعصار «إيتا»، الذي اجتاح معظم أميركا الوسطى، إلى تشريد الآلاف من الغواتيماليين - ولا سيّما المنحدرين من قبائل المايا، سكّان البلاد الأصليين، وثلثي تعداد البلاد البالغ 17 مليون نسمة - الذين فقدوا منازلهم وباتوا يعيشون في ملاجئ مؤقتة، أصبح هؤلاء الآن هدفاً سهلاً لفيروس «كورونا» الذي يحصدهم بالمئات. ووفقاً لأرقام جامعة «جونز هوبكنز»، هناك أكثر من 118 ألف حالة «كوفيد - 19» مؤكّدة في غواتيمالا، توفي منها 4 آلاف شخصٍ، إلى الآن، من دون توفرّ دلائل على انحسار ممكن قريب. ومنذ تفشّي الوباء بداية العام الحالي، تعرّضت الحكومة لانتقادات لاذعة، بسبب عجزها شبه التامّ عن مكافحته على المستوى الصحّي، وبسبب سوء إدارتها لما ترتّب عليه على المستوى الاقتصادي، بعدما فقد آلاف الغواتيماليين مصادر دخلهم، وانهارت البنية التحتية، وانعدمت الخدمات العامّة كلّياً في المناطق الريفية. يجري كلّ ذلك فيما تُعدّ غواتيمالا، حالياً، واحدة من الدول التي تعاني من أعلى معدّلات سوء التغذية في العالم.
تعرّضت الحكومة الغواتيمالية لانتقادات لاذعة بسبب عجزها عن مكافحة «كورونا»


وبدلاً من اتخاذ إجراءات طارئة لتدارك الموقف، مرّر البرلمان - الذي يسيطر عليه يمينيون فاسدون - موازنة استثنائية، هي الأكبر في تاريخ البلاد (حوالى 13 مليار دولار)، بأغلبية 115 صوتاً من أصل 160، قلّصت من الإنفاق على قطاعات الصحّة والتعليم والتغذية، ووجّهت الدعم للشركات الكبرى والقلّة الثريّة ومخصّصات البرلمان، فيما لم يستجب الرئيس غياماتي للنداءات الشعبية المتكرّرة له باستخدام حقّ النقض - الذي يمنحه له الدستور – لوقف إقرارها، ومحاكمة الفاسدين. وهكذا، انفجرت موجة احتجاجات واسعة لم تنجح محاولات الأجهزة الأمنية في قمعها، وأضرمت مجموعة من المتظاهرين النار بجزء من مقرّ البرلمان، يوم السبت الماضي، في أقوى تحدٍّ رمزي للطبقة الحاكمة، منذ ربع قرن على الأقلّ، وصفته الحكومة بـ«العمل الإرهابي المروّع». واستمرّت التظاهرات طوال يوم الأحد كذلك، الأمر الذي دفع رئيس البرلمان، آلان رودريغيز، إلى الإعلان عن تجميد العمل بالموازنة. ونُقل عنه قوله، في رسالة مسجّلة بُثّت بعد منتصف الليل، إن «المشرّعين وافقوا على تأجيل العمل بالموازنة لمصلحة استقرار البلاد»، وإن «الكونغرس لن يرسلها إلى الرئيس للتوقيع عليها، وبالتالي لن تدخل حيّز التنفيذ». كما نُقلت عنه دعوته الغواتيماليين إلى الهدوء.
مع ذلك، فإن الأزمة لا تتّجه إلى التلاشي سريعاً، إذ إن رودريغز لم يذكر ما إذا كان الكونغرس سيقرّ موازنة جديدة، أو ما هي التغييرات التي قد يجريها على الموازنة الحالية، قبل الموعد النهائي الذي حُدّد في كانون الأول/ ديسمبر المقبل، لتصبح قانوناً. يأتي هذا فيما شكّك نوّاب معارضون في دستورية ما أقدم عليه رئيس البرلمان، بتعطيله مشروع قانونٍ أُقرّ بالأغلبية. ولعلّ الأهم مما تَقدّم أن عدم تمرير تلك الموازنة المجحفة بحق الأكثرية لا يعني بالضرورة تحوّلاً نوعياً في سياسات النظام الغواتيمالي، لناحية إدارة الأوضاع الاستثنائية التي تعصف بالبلاد، في الوقت الذي تأثرّت فيه تحويلات الغواتيماليين العاملين في الولايات المتحدة إلى ذويهم بشكل دراماتيكي، بعدما تراجعت دخول معظمهم في ظلّ تفشي وباء «كوفيد - 19» هناك أيضاً. ويشكّل الغواتيماليون غالبية المهاجرين الذين يصلون إلى الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، في تدفّق مستمرّ بسبب ظروف العيش التي لا تُطاق في بلادهم - 80% من السكان الأصليين يعيشون تحت خطّ الفقر ويملك أقلّ من 2% من السكان حوالى نصف الأراضي الصالحة للزراعة في بلد ريفي -.
في غضون ذلك، لا يبدو الحليف التاريخي الأميركي للطبقة البرجوازية الغواتيمالية معنيّاً، بأيّ شكل من الأشكال، بمساعدة النظام الغواتيمالي، أقلّه على المدى القصير، وهو ما دفع جهات من الطبقة الحاكمة إلى استشعار الخطر جرّاء الاحتجاجات الأخيرة، وتبنّي الدعوات لاستقالة الرئيس غياماتي، بسبب فشله في إدارة المرحلة. وقد جاءت أبرز تلك الدعوات من نائبه غويليرمو كاستيلو، الذي طالبه علناً بمرافقته لتقديم استقالتَيهما معاً. وفيما سارع الرئيس إلى رفض ذلك الطلب، فقد يكون أضاع فرصة شخصية أخيرة لتجنّب الإطاحة به عنوة، سواءً من قِبَل البرلمان، أو الجيش، أو الشعب، إذ من المؤكّد أن الوضع الحالي بمعطياته كافة يتّجه إلى انفجار محتّم في أيّ لحظة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا