أثار تبنّي البرلمان الفرنسي مشروع قانون «الأمن الشامل» ــــ المثير للجدل ــــ ردود فعل واسعة في أوساط اليسار والمجتمع المدني، تمحورت أساساً حول المادة 24 منه. تمثّل هذه الأخيرة، بنظر المعترضين، انتهاكاً لحرية التعبير، ولمبدأ المحاسبة الذي ينص عليه الدستور. هي تنص، بعد إعادة صياغتها، على منع نشر صورة أيّ شرطي إذا شكّل هذا الأمر تهديداً «لأمنه الشخصي أو لتوازنه النفسي»، وبعقوبة لمَن يقوم بذلك تصل إلى السجن لمدة سنة، وغرامة مقدارها 45,000 يورو. يرى سيباستيان روشي، مدير الأبحاث في المركز الوطني للدراسات العلمية، ومؤلف «الشرطة في ظلّ الديموقراطية»، أن غاية القانون المذكور هي تأمين غطاء للعنف البوليسي. «منع تداول الصور يهدف إلى الحدّ من سلطة الشعب على الدوائر الرسمية. فتداول ونشر الصور هو الذي يتيح نقاشاً في الفضاء العام وإمكانية المباشرة بتحقيقات قضائية. في السابق، كانت شهادات الأشخاص لا تؤخذ بالحسبان من قِبَل القضاة. الصورة أداة ثورية بكل ما للكلمة من معنى في مواجهة العنف البوليسي. بفضلها لدينا دلائل ملموسة تسمح بتحديد هوية المسؤولين عن ارتكابات منافية للقوانين. فهمت نقابات الشرطة هذه الحقيقة جيداً، وهي تسعى إلى التصدي للمفاعيل القانونية والسياسية الناجمة عن هذه الثورة التقنية»، بحسب الخبير.يرى روشي أن التعديلات التي أُدخلت على المادة 24 لن تحول دون المساس بالحقوق الأساسية للمواطنين. وعلى رغم أن الرفض العارم لصيغتها الأولى دفع معدِّي القانون إلى التأكيد أن تجريم نشر الصور عليه ألّا ينال من الحقّ بالحصول على المعلومات، الذي تكفله حرية الإعلام، وأن أي ملاحقة قضائية لمَن يقوم به، يجب أن تستند إلى وجود نية جليّة عدائية تجاه رجال الأمن، فإن الجهة التي تُحدِّد وجود مثل هذه النية هي الشرطة، وفقاً له. «هذه المادة، بعد تعديلها، تترك للشرطي القدرة على تأويل نيات الشخص الذي يصوّر، والتصرف تبعاً لذلك. رجال الأمن هم الجهة التي تقوّم النيات السيئة لمَن يقوم بالتصوير وتقرّر تالياً اعتقاله. وحتى لو أطلق القاضي سراحه في مرحلة لاحقة، فإن انتهاكاً لحقوقه يكون قد تم نتيجة تعرّضه للتوقيف»، يقول.
إضافة إلى ذلك، يلفت العديد من المراقبين إلى أن هذا القانون يأتي ليعزّز ترسانة تزداد تشدّداً لحماية رجال الشرطة في فرنسا في خلال السنوات الأخيرة، كتلك التي أعادت تعريف وتوسيع مفهوم الدفاع المشروع عن النفس. يعكس هذا التوجّه لدى السلطات، بنظر هؤلاء، إرادة بالتعتيم على القمع البوليسي وانزلاقاً نحو الاستبداد.
ينصّ القانون على إضافة كاميرات خاصّة بالمشاة واللجوء المتزايد إلى المسيّرات


يعتقد سيباستيان روشي أن هذه التطورات تشي بأزمة أخلاقية في المؤسسة الأمنية الفرنسية: «نحن أمام أزمة تحكّم وضبط لعناصر يلجأون إلى عنف قاس ويخرج سلوكهم عن السيطرة. كثيراً ما لا يحمل هؤلاء الأرقام التي تسمح بالتعرّف إلى هويتهم ولا يجبرهم مسؤولوهم على ذلك. هناك أزمة أخلاقية أيضاً على مستوى القيادة، أي وزارة الداخلية، التي ترسل عناصر شرطة للمشاركة بعمليات يسمح في خلالها باستخدام العنف ضمنياً. لم تُتّخذ أي إجراءات عقابية في حق رجال الشرطة الذين اعتدوا على الصحافيين والمتظاهرين». وكان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، قد صرح، في آذار/ مارس 2019، بأن «من غير المقبول في دولة القانون الحديث عن عنف بوليسي». يظهر هذا الخطاب، باعتقاد الخبير الفرنسي، طبيعة الديناميات السياسية التي تعتمل في بلده. فأحزاب اليمين تجنح تدريجيّاً نحو اليمين المتطرف لاجتذاب ناخبيه، والحصول على غالبية سياسية، بينما أحزاب اليسار مشرذمة وعاجزة عن تقديم بديل.
علاوة على ذلك، فإن القانون المشار إليه يحوي موادّ إشكالية أخرى، كتلك التي تنصّ على إضافة كاميرات خاصة بالمشاة أو باللجوء المتزايد إلى المسيّرات. فتراجع قدرة المواطنين على مساءلة سلوكيات الشرطة يتزامن مع مسار شرعنة وسائل جديدة لمراقبتهم وللإدارة الأمنية لشؤونهم. وبينما تنتقد الدول الغربية الصين بسبب نظام الرقابة الشاملة المعتمد من قِبَلها، وما يسمح به من تصنيف للمواطنين باعتبارهم صالحين أو سيئين، فإن القانون الفرنسي يمهّد الطريق نحو نظام مشابه.
«إن فكرة تخزين الصور التي يجري أخذها في الوقت الفعلي بفضل الطائرات المسيّرة، لا معنى لها إلا إذا تم استخدامها. هناك مرحلة أولى مع أنظمة التقاط الصور، سواء عبر المسيّرات أو عبر كاميرات رجال الشرطة. للمسيّرات القدرة على التصوير بدقّة عالية، بما فيها تصوير وجوه الأشخاص وبثها مباشرة إلى مركز يحتفظ بجميع هذه المعطيات. المنطق العميق لمثل هذا المسار الذي لم يتطرّق إليه نصّ القانون، لكنه لم ينهَ عنه، هو استخدام الذكاء الاصطناعي للتعامل مع هذه الصور. في الأفق، يصبح من الممكن إنشاء نظام لتصنيف المواطنين، شبيه بذلك الصيني، بين صالحين وسيئين، استناداً إلى تصوير لسلوكهم في المجال العام. أرى أن مشكلات كثيرة ستبرز عند مراجعة نص هذا القانون من قِبَل المجلس الدستوري»، يختم الخبير الفرنسي.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا