أربع سنوات صعبة عاشتها الأنظمة اليسارية في أميركا اللاتينية، في ظلّ إدارة دونالد ترامب. خطط الانقلاب التي وضعتها الإدارة لإسقاط العواصم اليسارية تباعاً، من فنزويلا إلى بوليفيا، فشلت. ولما تعذّر فوز ترامب أمام منافسه الديموقراطي جو بايدن، بدا أن مرحلة مختلفة في علاقات الشمال والجنوب ستنطلق مع تسلّم الإدارة الجديدة مهمّاتها في 20 كانون الثاني المقبل. وبالنظر إلى أن بايدن كان نائباً للرئيس الأسبق، باراك أوباما، وأحد مهندسي سياساته الخارجية، ولا سيما تلك المتعلّقة بدول أميركا الجنوبية، فإن ذلك يعطي لمحة محتملة عن سياسة الإدارة القادمة، والمتوَقَّع أن تعود إلى اعتماد "عقيدة أوباما".خوان غونزاليس، المسؤول السابق في إدارة أوباما، ومستشار بايدن لشؤون أميركا اللاتينية، يرى أن سياسة الإدارة الحالية في الجنوب "فاشلة"؛ إذ يقول، في حديث إلى "نيويورك تايمز"، إن هذه الإدارة تفتقر إلى سياسة لدول أميركا الجنوبية، بينما تحضر "استراتيجية ترامب الانتخابية لجنوب ولاية فلوريدا". لكن ما هي بدائل بايدن؟ يرى الأستاذ في العلاقات الدولية في جامعة "سيتون هول" في نيوجرسي، بنجامين غولدفرانك، في حديثٍ إلى "الأخبار"، أن البلدين اللذين سيركّز عليهما الرئيس المقبل في القارة اللاتينية، هما كوبا وفنزويلا، وذلك بسبب وجود أعداد كبيرة مِن الأميركيين اللاتينيين من أصول كوبية وفنزويلية في ولاية فلوريدا (خسرها بايدن). في حالة كوبا، يقول: "سيحاول بايدن إحياء علاقات أكثر ودية كانت قد بدأت في عهد أوباما". أمّا في فنزويلا، "فسيستمرّ في اتباع استراتيجية العقوبات، والتي لم تؤدِ إلّا إلى تعميق الأزمة الاقتصادية في كاراكاس... وهو أعلن أنه سيمنح وضع الحماية الموقّتة للفنزويليين في الولايات المتحدة"، يضيف.
وبالنسبة إلى دور زعيم المعارضة، خوان غوايدو، يشير غولدفرانك إلى أن الأخير وحلفاءه "تودّدوا إلى ترامب، على أمل أن تساعدهم إدارته في تولّي السلطة"، مضيفاً إن "الرجلين استخدما بعضهما بعضاً لمحاولة كسب الشرعية. غوايدو في فنزويلا، وترامب بين الناخبين اللاتين من أصول فنزويلية وكوبية في فلوريدا". وفي نظرة إلى نتائج تبادل المصالح هذا، يقول غولدفرانك: "ربح ترامب في هذه المعادلة بعدما حاز حصة كبيرة نسبياً من أصوات الناخبين اللاتين من خلال استخدام خطاب مناهض للاشتراكية، ما ساعده على الفوز بفلوريدا. في المقابل، فقد غوايدو شعبيته في فنزويلا، حيث بات يُنظر إليه على أنه دمية بيد الولايات المتحدة، وخصوصاً بعد فشل محاولاته إطاحة مادورو". ويلفت غولدفرانك إلى الانقسام الشديد في صفوف المعارضة الفنزويلية، حيث يشعر غوايدو بالقلق إزاء فوز بايدن، ويتخوّف من أن يُفشِل هذا الأخير تحالفه مع أميركا. وليس بعيداً من هافانا وكاراكاس، تبدو حالة لاباز مختلفة، بحسب الأستاذ المختص في الشؤون اللاتينية، ومؤلّف كتابَي "تعميق الديموقراطية المحلية في أميركا اللاتينية: المشاركة، واللامركزية، واليسار" و"اليسار في المدينة: الحكومات المحلية التشاركية في أميركا اللاتينية". فبعد فوز "الحركة نحو الاشتراكية" في الانتخابات البوليفية، وإنهاء الانقلاب، "يتحتّم على بايدن التريّث... إذ ليس لديه خطة تجاه بوليفيا حتى الآن، بالنظر إلى أن الانتخابات جرت للتوّ".
لا يمكن المراهنة على أيّ اختلاف حقيقي تجاه أميركا اللاتينية بعد تسلُّم بايدن الرئاسة


أما بالنسبة إلى سياسته المحتملة تجاه المهاجرين من أميركا الجنوبية والوسطى، فسيسعى بايدن إلى تمرير قانون في الكونغرس "سيضع خريطة طريق للمواطنة" لـ 11 مليون مهاجر غير شرعي يعيشون في الولايات المتحدة، ولِمَا يقرب من 700 ألف شاب وصلوا بشكل غير قانوني إلى البلاد عندما كانوا أطفالاً وتطلق عليهم تسمية "الحالمون". لكن ذلك يعتمد على فوز الديموقراطيين في مقعدَي ولاية جورجيا لتعديل النتيجة مع الجمهوريين (50 مقابل 50)، وإلا فإن "التقدّم في إصلاح نظام الهجرة يبدو شبه مستحيل"، وفق غولدفرانك.
على رغم أن ترامب وبايدن يقفان على طرفَي نقيض في الشؤون الداخلية، إلّا أن سياستَهما الخارجية تبدو متشابهة، وإن اختلفت الأساليب والتكتيكات. إذ بينما يعتمد الحزب الجمهوري السياسة الصلبة، يميل "الديموقراطي" إلى القوّة الناعمة مصحوبةً بالتهديد باستخدام القوّة العسكرية، الأمر الذي يسمح له بالمناورة والوصول إلى مخارج تسووية للأزمات. هذا النسق عبّر عنه بايدن نفسه عندما قال: "بصفتنا أمّة، يجب أن نثبت للعالم أن أميركا مستعدة للقيادة مرّة أخرى، ليس بنموذج القوّة، ولكن بقوّة النموذج". ومن هنا، لا يمكن المراهنة على أي اختلاف حقيقي في النهج الأميركي تجاه الأنظمة الاشتراكية في أميركا اللاتينية بعد دخول بايدن البيت الأبيض. حتى أشدّ المتفائلين بتغيير حقيقي لا يتوقّعون خروج الرئيس المنتخب على "مبدأ مونرو" (أُنشئ في عهد الرئيس الأميركي جيمس مونرو عام 1823، وبموجبه تمّ تحديد نصف الكرة الأرضية الغربية كحديقة خلفية لواشنطن) الذي يُعتبر من الثوابت لكلا الحزبين.
يتفق معظم المراقبين على أن بايدن أدى دوراً أساسياً في السياسة الخارجية لإدارة أوباما. خلال تلك الفترة الممتدَّة بين عامَي 2009 و2017، انتُهجت سياسة انفتاح تجاه أميركا الجنوبية. برز ذلك، خصوصاً، في تخفيف الحصار على هافانا، أملاً بالسماح بنشوء قطاع خاص ومجتمع مدني، يشكّلان أرضية صلبة لمحاولة قلب نظام الحكم في الجزيرة، بحسب مراقبين. وفي المقابل، شهد عهد أوباما عدّة انقلابات ضدّ أنظمة يسارية في القارة، مثل الانقلاب على مانويل زيلايا في هندوراس عام 2009، وفرناندو لوغو في باراغواي عام 2012، وديلما روسيف في البرازيل عام 2016، ومحاولة الانقلاب على رافائيل كوريا في الإكوادور عام 2010. ومن هذا المنطلق، لا يمكن الجزم بعدم تكرار سيناريوات الانقلاب في أميركا اللاتينية في عهد بايدن: "كلّ شيء ممكن... لكن بايدن لن يتبع أجندة لتغيير النظام في منطقة البحر الكاريبي"، بحسب ما يعتقد غولدفرانك.
تعلم الحكومات اليسارية في القارة النيات الأميركية جيداً. ومن هنا، كان حديث نيكولاس مادورو في 30 أيلول/ سبتمبر الماضي عن أن "المرشحَين يمثلان العدو نفسه"، و"سواء فاز ترامب أو بايدن، سنواجهه وسنهزمه". وعلى رغم ذلك، فقد سارع الرئيس الفنزويلي إلى تهنئة الرئيس المنتخب، مبدياً استعداد بلاده وانفتاحها على "الحوار والتفاهم مع شعب وحكومة الولايات المتحدة". كذلك الأمر بالنسبة إلى الرئيس الكوبي، ميغيل دياز كانيل، الذي قال إن "هناك إمكانية لتأسيس علاقات ثنائية بنّاءة تحترم اختلاف الآخر".
آمالٌ حذرة، إذاً، هي تلك التي تعكسها تصريحات الرئيسيَن؛ فبقاء ترامب في البيت الأبيض كان لـ"يحمل تبعات سلبية جداً على العلاقة المتأزّمة أصلاً بين واشنطن وكلٍ من هافانا وكاراكاس، ويسدّ الطريق على أيّ حوار محتمل"، وفق ما يؤكّد السفير الفنزويلي لدى لبنان، خيسوس غريغوريو غونساليس، في حديثٍ سابق إلى "الأخبار". أما بايدن، فحاجته إلى إنتاج صورةٍ مختلفة لأميركا في الخارج ربّما تدفعه إلى سياسةٍ خارجية أكثر اعتدالاً، وخصوصاً في المحيط الأقرب؛ إذ إن قيادة العالم بالنموذج، تحتاج أولاً إلى تغيير النموذج.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا