أيامٌ خمسة تفصل عن الاستحقاق الانتخابي، ستشهد مفارقتَين اثنتَين: حماسة ديموقراطية مفرطة مبنيّة على التصويت المبكر الذي وصل إلى مستوى غير مسبوق؛ ودونالد ترامب أكثر عقلانيةً يفضّل إعطاء يوم الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر حقَّه في حسم النتيجة... إلى حين. وإن بدأت إرهاصات المفارقة الأولى، بمجرّد أن أشيع أنّ عدد الأصوات التي أُدلي بها، حتّى الآن، تخطّى الستين مليوناً، فإن الثانية تنتظر «موجة حمراء»، يعوّل عليها ترامب لتقلب النتيجة رأساً على عقب، كما فعلت في انتخابات 2016.في كلتا الحالتين، تبقى حقيقة واحدة ثابتة، وهي أن المعركة الانتخابية لا تزال مستمرّة، ونهايتها مفتوحة على كلّ الاحتمالات، حتّى لو منّى الديموقراطيون النفس بـ«موجة زرقاء» أثبتت حضورها عبر التصويت المبكر، أو لوّح الجمهوريون بتلك «الحمراء» التي ستظهر من مخبئها، لتنتشل ترامب. وبالرجوع إلى انتخابات عام 2016، وما سبقها من ترويجٍ لاستطلاعات الرأي التي أظهرت فوز هيلاري كلينتون على دونالد ترامب، يتقدّم سريعاً السؤال التالي: هل تستطيع اتّجاهات التصويت المبكر حسم هوية الفائز؟ أو بمعنى آخر، هل يمكن الاعتماد عليها، أكثر من الاستطلاعات، من أجل استشراف النتيجة؟
إجابة واحدة يمكن أن تكون وافية، وهي أن التصويت المبكر لا يمكن أن يحسم نتيجة الانتخابات الرئاسية، لكن قد يُعتمد على المعلومات المتوافرة من جرّائه لربطها بما ذهبت إليه استطلاعات الرأي. بحسب شبكة «سي ان ان»، فإن هناك نوعاً من التوافق بين الإقبال على التصويت المبكر، والأرقام التي ذكرتها تلك الاستطلاعات، وربما يمكن اعتبار ذلك علامة جيّدة بالنسبة إلى مَن يأمل عدم تكرار أخطاء الاقتراع عام 2016. ولكن بنظرة سريعة على ما حفلت به الصحف الأميركية من آراء لمحلّلين وخبراء في الأيام القليلة الماضية، قد يبدو الأمر مربكاً، إذا ما اعتُمد، فقط على وجهة نظر المتحمّسين لفكرة الفوز الديموقراطي الاستباقي، فيما تصبح المقاربة منطقية أكثر عند التمعّن في ما ذهب إليه أولئك الذين آثروا الحفاظ على نوعٍ من الحذر، في إطار تحليلهم لأسباب الإقبال الكبير للناخبين في وقت مبكر ومآلاته.
الواقع يقول إن أكثر من 64 مليون أميركي - نصفهم تقريباً في أكثر من عشر ولايات تنافسية - أدلوا بأصواتهم قبل أقلّ من أسبوع على يوم الانتخابات الرئاسية. والأهمّ من ذلك، أنّ الأصوات المبكرة في تلك الولايات التي ستشهد معارك حامية تمثّل أكثر من نصف إجمالي الأصوات في الولايات ذاتها في عام 2016، بل إن عدد الناخبين الذين صوّتوا، على الصعيد الوطني، وصل إلى حوالى 46 في المئة من إجمالي الأصوات التي تمّ فرزها في عام 2016. وإذا ما جرى «تقريش» هذه الأرقام لناحية شرح الأسباب، يمكن حصرها في مسألتين أجمعت عليهما غالبية المحلّلين: جائحة «كورونا» التي غيّرت قواعد التصويت في العديد من الولايات، ما سمح للملايين بالإدلاء بأصواتهم عبر البريد للمرة الأولى، لتجنّب زحمة الناخبين، الثلاثاء المقبل؛ وهجوم دونالد ترامب، المتواصل والحادّ، على التصويت عبر البريد، مع ما ولّده من زخم في التصويت المبكر لدى الديموقراطيين، إن كان عبر البريد أو في مواقع الاقتراع، في مقابل تفضيلٍ جمهوري للتوجّه إلى صناديق الاقتراع شخصياً، في اليوم الانتخابي المنتظر.
يفضّل كثيرون اعتماد اتّجاهٍ حذِر في ترجمة عدد الأصوات المبكرة ويقلّلون من أهميتها كـ«ظاهرة» لهذا العام


الأرقام تفيد أيضاً بأنّ عدد الناخبين الديموقراطيين، في خمس من الولايات التنافسية، تخطّى عدد الجمهوريين بمليوني صوت. ففي بنسلفانيا - حيث فاز ترامب بفارق ضئيل في عام 2016 - وصل عدد الديموقراطيين الذين صوّتوا، إلى الآن، إلى ثلاثة أضعاف الجمهوريين، وهو أمر مشابه في فلوريدا وكارولينا الشمالية أيضاً. حتّى في ولاية تكساس المكتظّة بالسكان - والتي تميل إلى الحزب الجمهوري مع أنّها تعدّ تنافسية هذه السنة بسبب تزايد عدد السكان الملوّنين - فقد تجاوز التصويت المبكر الـ80 في المئة من إجمالي الإقبال الذي شهدته الولاية في عام 2016. بنحوٍ أشمل، تُمثّل الأصوات في أريزونا وفلوريدا وجورجيا ونيفادا ونورث كارولينا أكثر من 60 في في المئة من إجمالي الأصوات التي تمّ الإدلاء بها هناك قبل أربع سنوات. مردّ ذلك، وفق صحيفة «ذا نيويورك تايمز»، هو أن الناخبين شاركوا بأعداد كبيرة في الولايات التي من المرجّح أن تفضّل جو بايدن، وهي تمثّل مجتمعة أكثر من ثلث الأصوات المُدلى بها إلى الآن، و43 في المئة من إجمالي الأصوات التي جرى الإدلاء بها في الولايات ذاتها في عام 2016. ومع بدء التصويت المبكر في ولايات أخرى، مثل نيويورك، من المرجّح أن تشهد هذه الأرقام المزيد من الارتفاع. وعلى حدّ تعبير الصحيفة ذاتها، فقد كان التصويت المبكر أقلّ كثافة في الولايات التي من المرجّح أن تفضّل ترامب، ذلك أنّها تعدّ أقلّ اكتظاظاً بالسكان مقارنة بالعديد من الولايات ذات الميول الديموقراطية، والأخرى التنافسية. لذا، ليس من المستغرب أنها تتمثّل بحصّة أقلّ من إجمالي الأصوات المبكرة.
على الرغم من كلّ ما تقدّم، يذهب كثيرون إلى اعتماد اتّجاهٍ حذِر في ترجمة عدد الأصوات المبكرة، بل إنّهم يقلّلون من أهمية هذا الإجراء كـ«ظاهرة» لهذا العام. أساس مقاربة هؤلاء هي استطلاعات الرأي، التي أفادت، منذ فترة، بأن رقماً قياسياً سيصوّت باكراً، ملوّحة بأنّ فارقاً كبيراً سيظهر، في هذا السياق، بين نسبة مؤيّدي بايدن ونسبة مناصري ترامب. إلّا أنّ ما يمكن التوقّف عنده، هنا، هو أن أحد الإحصاءات الذي أجرته شبكة «إيه بي سي» بالتعاون مع صحيفة «ذا واشنطن بوست» الشهر الماضي، أظهر أنّ بايدن كان يتقدّم على ترامب بـ36 نقطة بين هؤلاء الذين سيصوّتون قبل يوم الانتخابات، بينما يتقدّم ترامب بـ19 نقطة بين هؤلاء الذين قالوا إنهم سيصوّتون يوم الانتخابات. وبالفعل، ما يحصل الآن هو أن الديموقراطيين يصوّتون باكراً بنسبة أعلى بكثير من الجمهوريين. المشكلة الثانية هي أنه ليس من الممكن التأكّد من الفائز بمجرّد معرفة الانتماء الحزبي للناخبين في بعض الولايات. وإن كان هذا يعني شيئاً، فهو أن التصويت الذي يجري الإدلاء به في يوم الانتخابات يحمل القيمة ذاتها للتصويت المبكر، بل ربما يكون أكثر أهمية، على اعتبار أنه سيحسم النتيجة. الديموقراطيون تعلّموا ذلك بالطريقة الصعبة في عام 2016، حين كان الانقسام الحزبي بين المصوّتين باكراً، وأولئك الذي صوّتوا في يوم الانتخابات، أصغر بكثير. آنذاك، فازت هيلاري كلينتون لدى مَن أدلوا بأصواتهم قبل يوم الانتخابات في ولايتين محوريتين، هما: فلوريدا ونورث كارولينا.
ولكن النتيجة تمثلت في فوز ترامب في يوم الانتخابات، بل أيضاً بفوزه بأصوات الناخبين في كلتا الولايتين. لا شيء يمنع من تكرار هذا السيناريو هذا العام، فالديموقراطيون الذي يدلون بأصواتهم باكراً في ولاية الشمس المشرقة، أكثر بكثير من الجمهوريين، بينما يبدو أن هؤلاء لا يزالون يفضّلون الانتظار.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا