شَكّل فوز أرسين تتار برئاسة جمهورية شمال قبرص التركية نهايةً لـ«توتر» أحدثه الرئيس السابق، مصطفى أكنجي، مع أنقرة، التي تَعتبر نفسها «الوطن الأمّ» للقبارصة الأتراك. فوز تتار، رئيس الحكومة في عهد أكنجي ورئيس حزب «الوحدة الوطنية» القومي اليميني، جاء نتيجة دعم تركي مكثّف، لم تتوانَ أنقرة ومؤسّساتها الإعلامية عن إسدائه إليه على مدى الأسابيع الماضية. وهو ما توازى مع مبادرتها إلى إعادة فتح المنطقة الساحلية لمدينة فاروشا، والتي ظلّت مقفرة منذ احتلال تركيا الشطر الشمالي من الجزيرة المتوسطية. خطوةٌ رأى فيها العديد من القبارصة الأتراك محاولةً من قِبَل أنقرة لتعزيز حظوظ تتار، بينما اعتبرها القبارصة اليونانيون مقدّمة لاستيلاء أقرانهم على المدينة، وتالياً الضرب بقرارات الأمم المتحدة عرض الحائط.غزت تركيا شمال جزيرة قبرص في عام 1974، وبسطت سيطرتها على 36% من مساحة الجزيرة عقب وقوع انقلاب في نيقوسيا هَدَفَ إلى إلحاقها باليونان. تلا ذلك إعلان جمهورية شمال قبرص استقلالها رسميّاً من جانب واحد في عام 1983. لم تحصل الأخيرة سوى على اعتراف تركيا، بعد فشل مساعي أنقرة، على مدى عقود، في إقناع العالم الإسلامي بالاعتراف بجمهوريتها القبرصية، حيث لا يزال ينتشر نحو 15 ألف عسكري تركي. مذّاك، تربط أنقرة علاقةٌ استراتيجية بقبرص التركية، ستنمو خصوصاً في العقد الأخير، مع انهيار محادثات السلام القبرصية عام 2017 برعاية الأمم المتحدة، واكتشاف قبرص للغاز، ما دفع تركيا إلى تكثيف حضورها في المنطقة، سعياً منها إلى وضع يدها على جزء من مصادر الطاقة في شرق المتوسط. من هنا، يصبح مفهوماً اهتمام أنقرة الكبير بالانتخابات في قبرص التركية، وحرصها على وصول مرشّح يشاركها رؤيتها حول مستقبل الجزيرة والعلاقة التي تربط البلدين، إلى سُدّة الرئاسة.
وإن كان أكنجي (يسار وسط) يعتقد بضرورة المصالحة مع حكومة نيقوسيا وتوحيد الجزيرة، بخلاف رؤية أنقرة، فإن خلافات الجانبين تصاعدت منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2019، حين اعترض الرئيس السابق على تدخل تركيا العسكري في شرق الفرات السوري، واصفاً عملية «نبع السلام» بأنها «حرب» تشبه «التدخل التركي في قبرص عام 1974». موقف أكنجي هذا، ودعوته إلى «علاقة متساوية ذات استقلالية مع تركيا»، دفعا الأخيرة إلى التحرّك بكلّ طاقتها لسدّ الطريق أمام عودته إلى الحكم، نظراً إلى الثقل الذي تتمتّع فيه الجزيرة بالنسبة إلى تركيا.
بخلاف سلَفه، يُعدُّ أرسين تتار مقرّباً من أنقرة ورؤيتها للحلّ في الجزيرة، إذ يؤيّد إقامة دولتَين ذواتَي سيادة. هذا ما دعا إليه في خطاب تنصيبه الذي حضره نائب الرئيس التركي، فؤاد أقطاي، يوم الجمعة الفائت، معتبراً أن «المساواة في السيادة بين الشعبين اللذين يسكنان الجزيرة، وتعاونهما على أساس دولتَين، أمر ضروري». وأوضح أن «الشعب القبرصي - التركي كان دائماً مع المصالحة والاتفاق... لكن الجانب القبرصي اليوناني كان دائماً مَن يرفض ذلك»، في إشارة إلى موافقة القبارصة الأتراك على خطّة إعادة توحيد الجزيرة، والتي تمّ رفضها من جانب القبارصة اليونانيين في استفتاء عام 2004. ورأى أن «أعظم قوّة للقبارصة الأتراك كانت دولتهم ووطنهم الأم: جمهورية تركيا»، واعداً بالعمل «بانسجام» مع أنقرة، ومشدّداً على أن إنهاء «عزلة» جمهورية شمال قبرص سيكون أحد أهدافه الرئيسة. كذلك، دعا تتار، الرئيس القبرصي نيكوس أناستاسيادس، إلى النظر في اقتراحه إنشاء لجنة مشتركة لتقاسم الموارد الهيدروكربونية في شرق المتوسط.
الأكيد أن تتار سيواجه عدة اختبارات، يتمثّل أولها في التعامل مع القبارصة الأتراك الموالين لأكنجي والأحزاب اليسارية، والمعادين لسياسات إردوغان في بلادهم، والذين يشكّلون نسبة لا يستهان بها في المجتمع القبرصي التركي. أما التحدّي الثاني فسيَمثُل أمامه في خلال اللقاء الذي تعمل الأمم المتحدة لعقده قريباً بين شطرَي جزيرة قبرص، بحضور كلٍّ من تركيا واليونان وبريطانيا، في ظلّ التوتر المتصاعد في شرق البحر المتوسط في شأن ثروات الغاز، ولتحديد فرص استئناف محادثات السلام في الجزيرة. وهي محادثات تبدو فرص نجاحها ضئيلة، وفق أوساط تركية عدّة، تستبعد الحلّ في المدى المنظور. وهو ما عبّر عنه الكاتب الأكاديمي التركي، مصطفى أيدين، الذي قال في حديث إلى صحيفة «حرييت» التركية: «أعتقد أنه ستكون هناك بعض الخطوات الأحادية التي ستتّخذها تركيا وجمهورية قبرص الشمالية. وإذا ما كان الاجتماع سيأتي بحلّ، فهذه مسألة أخرى للنقاش... لكن، ربما، مع خطوة تركيا في قبرص الشمالية، قد تتمّ الدعوة إلى طاولة مفاوضات جديدة».
في المحصّلة، منح فوز تتار، إردوغان، ورقة قوة سيستخدمها، بلا شكّ، في نزاعه مع اليونان وقبرص، ومِن خلفهما سائر الدول الأوروبية، وأُولاها فرنسا، إذ إن أنقرة تخوض، منذ أشهر، معركة توسيع حدودها البحرية للسيطرة على جزء من مصادر الطاقة في شرق المتوسط. وجاءت نتيجة الانتخابات في قبرص التركية لتعزّز من أوراقها على «موائد» المفاوضات: المباحثات التي تنظّمها الأمم المتحدة في شأن الأزمة القبرصية، وتلك التي يرعاها «حلف شمال الأطلسي» حول الحدود البحرية بين تركيا واليونان، و«المفاوضات» التي تخوضها البحرية التركية في الجزء الشرقي من البحر المتوسط.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا