لندن | تواصل حكومة اسكتلندا التي يهيمن عليها دعاة الاستقلال تَبنّي سياسات متمايزة عن تلك المُعتمدة من قِبَل الحكومة المركزية في لندن، وآخرها ما يتعلّق بإدارة أزمة وباء «كورونا». سياساتٌ من شأنها أن تُكرّس تدريجيّاً، وبحكم الواقع الموضوعي، إمكانية حصول الإقليم على استقلاله عن المملكة بعد تبعية مستمرّة منذ عام 1707. وتتعرّض منهجية المملكة المتّحدة في التعامل مع مترتّبات الوباء لانتقادات يصل بعضها إلى حدّ وصفها بالفشل، فضلاً عن تخبّط حكومي بتسبّب في فقدان آلاف البريطانيين حياتهم من دون مبرّر. وإلى تفشّي الوباء في الجامعات نتيجة إصرار السلطات على إطلاق العام الدراسي في موعده (أيلول/ سبتمبر)، والكشف عن عدم أخذ الحكومة بتوصيات أعلى لجنة علمية في البلاد لفرض إغلاق تامّ عاجل لمدّة أسبوعين سعياً إلى امتصاص الموجة الوبائية الثانية، كشف صراع الإرادات، على مدى الأسبوعين الماضيين، بين الحكومة المركزية وبلدية مانشستر، حول وضع المدينة في حال التأهّب القصوى وفرض إجراءات عزل مشدّدة عليها، عن تقلّص حادّ في ثقة المجتمعات المحليّة بقدرة حكومة حزب المحافظين على إدارة الأزمة.
سارعت الوزيرة الأولى في اسكتلندا وزعيمة «الحزب القومي الاسكتلندي»، نيكولا ستورجين، إلى تقديم نموذج مغاير، بعد الإعلان أنها لن تدخل في «أيّ مواجهات» مع المجالس المحلّية في ما يتعلّق بتطبيق نظام العزل الثلاثي المستويات في اسكتلندا، وأنها، على رغم التزامها باتخاذ القرار النهائي لجهة تطبيق النظام، لن تسعى إلى «تجويف» عملية صنع قرارات المجالس المحلّية. ونُقل عنها قولها: «نحن نطلب من الناس القيام بأشياء غير عادية في الوقت الحالي، وليس من العدل بالنسبة إليّ أو إلى الحكومة، أن نحاول فرض هذه الأشياء على أشخاص آخرين في السلطات المحلية أو المجالس الصحية. علينا أن نتشاور ونتعاون قدر الإمكان. وفي الوقت الذي نتّخذ فيه قرارات في شأن مستويات العزل التي تنطبق على أيّ أجزاء من اسكتلندا، نريد أن يكون ذلك تعاونياً وتطوعياً».
ومن الجليّ أن هذا التراكم الكمّي في السياسات المتمايزة - شكلاً ومضموناً - لحكومة أدنبرة يثير قلقاً متزايداً في لندن، التي تُدرك أن إدارتها المستعجلة إنهاء العلاقة مع الاتحاد الأوروبي (بريكست) ربّما تمنح قوميّي اسكتلندا فرصتهم التاريخية لكسب استفتاء على الاستقلال، سيعني انتصارهم فيه بالضرورة تفكّك المملكة المتحدة التي تجمع إلى إنكلترا كلّاً من ويلز واسكتلندا وإيرلندا الشمالية وجبل طارق.
وبحسب تقرير نشرته وكالة «بلومبرغ» استناداً إلى مذكّرة سرية مسرّبة تقع في 21 صفحة، ويُعتقد أن شركة استشارات خاصة كتبتها بتكليف من وزراء في الحكومة البريطانية، فإن هناك خطراً حقيقياً من حدوث «أزمة دستورية كاملة» إذا استمرّت الاتجاهات الحالية لتعاظم الدعم الشعبي للقوميين وللحكومة المحلّية في اسكتلندا. المذكّرة التي وضعتها شركة «هانزبري» الاستشارية الخاصة، والتي يديرها أوميت جيل، مدير استراتيجية رئيس الوزراء البريطاني السابق، ديفيد كاميرون، وبول ستيفنسون، مستشار حملته للتصويت في الاستفتاء الشعبي على «بريكست» (2016)، أثارت السخرية من عجز كوادر الحكومة حتى عن التفكير في مسألة مفصلية، مثل وضع استراتيجية للمحافظة على وحدة المملكة، ولجوئهم إلى إنفاق مبالغ باهظة على حساب المال العام لاستئجار آخرين - من الأصدقاء القدامى - لتولّي القيام بمهمّة التفكير نيابة عنهم.
يثير التراكم الكمّي في السياسات المتمايزة لحكومة أدنبرة قلقاً متزايداً في لندن


تقترح المذكّرة خطّة لمواجهة «الخطر القادم من الشمال»، تتمحور حول مهاجمة سجلّ «الحزب القومي الاسكتلندي» في حكومة أدنبرة منذ عام 2007، وشنّ حملة هجوم قاسية ومحدّدة ضدّ شخص الوزيرة الأولى، بغرض تكوين قاعدة انتخابية معادية للحزب تضمّ معارضي الاستقلال، وأعداء ستروجين، وكذا معارضي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذين لا يرغبون في استقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة. وتوصي الحكومة ببذل جهود مكثّفة مع بروكسل لإقناعها بإظهار مسألة انضمام اسكتلندا المستقلّة إلى الاتحاد الأوروبي على أنها غير عملية ودونها صعوبات جمّة.
ولعلّ أهمّ ما ورد في المذكّرة المسرّبة، وفق تقرير «بلومبرغ»، يأتي في إطار توصية المحافظين بالتخلّي عن السياسة الحالية المُتصلّبة تجاه استقلال اسكتلندا، والتي تقوم على مبدأ اعتبار أن الاستفتاء الشعبي الذي جرى في عام 2014 - وخسره القوميون حينها - يبقى فاعلاً لجيل كامل ولا تنبغي إعادته، وتصفها بـ»الخطأ» الذي يجب الإقلاع عنه فوراً. وتقول المذكّرة إنه في أعقاب الفوز المحتمل لـ»الحزب القومي» في الانتخابات الاسكتلندية العامة في 2021، ينبغي على رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، أن يبتلع (لا) الحاسمة التي يواجه بها المطالبات المتصاعدة لاستقلال الإقليم، ويشرع في استخدام (لا) مخملية تقوم على رفض إجراء استفتاء شعبي جديد على المدى القصير، لكن مع تقديم تسوية دستورية جديدة تسمح لاستكتلندا باتخاذ قرارات سيادية في بعض المسائل المتعلّقة بـ»بريكست»، كمسألة الهجرة مثلاً، والتي يمكن التصديق عليها بعد استفتاء شعبي يكون بمثابة استرضاء لمشاعر مواطني الإقليم. وسيكون من الصعب على الحزب القومي عندها رفض عروض سخيّة في هذا الاتجاه، بعدما قضى عدّة سنوات (منذ استفتاء «بريكست» 2016) يطالب بحقوق سيادية حول ترتيبات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي سيضعف محاججة أساسية يعتمد أنصار الحركة الاستقلالية عليها.
وعلى رغم عدم تبنّي الحكومة البريطانية مضمون المذكّرة رسمياً، ووجود وجهات نظر متعدّدة لدى طاقم جونسون في شأن إدارة (المشاغبين) في الأقاليم الشمالية، إلا أنها تعطي إشارة قوية إلى تصدّع استراتيجية الصقور التي اتبعها رئيس الوزراء منذ توليه منصبه نهاية العام الماضي تجاه المطالبات بالاستقلال، وتُعتبر علامة دامغة على أن الدائرة الداخلية في أوساط اليمين البريطاني لديها شكوك قوية إزاء النتائج المرجوّة من هذه الاستراتيجية.
ولا يتوقّع المراقبون من جونسون تبنّياً فورياً لتوصيات هذه المذّكرة، لكن مجرّد تداولها في أوساط حزب المحافظين الحاكم يمثّل إنذاراً مبكراً للطبقة العاملة الاسكتلندية لجهة عدم القبول بأقلّ من استفتاء على استقلال تامّ للبلاد عن المملكة المتّحدة بعد انتخابات 2021. استفتاءٌ تكون الخيارات فيه واضحة بين (لا) و(نعم)، لتجنُّب الوقوع في فخ شقّ الحركة الاستقلالية الذي يبدو أن المحافظين يحضّرون له في الكواليس، سيراً على عادتهم التاريخية في الهيمنة على الشعوب بسياسة «فرّق تسد».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا