أثارت جريمة قطع رأس مدرّس فرنسي، كان قد عَرَض على طلّابه صوراً كاريكاتورية عن الرسول، حملة إعلامية تحريضية شرسة ضدّ المسلمين. وهي حملة تتوازى مع توظيف هذه الجريمة، التي تتزامن مع بدء جلسات المحكمة الخاصة بالهجوم ضدّ مجلة «شارلي إيبدو»، ومع حرب إيمانويل ماكرون ضدّ «الانفصالية الإسلامية»، للنيل من التيار السياسي المناهض للعنصرية وتحميله مسؤولية انتشار التطرّف. دان ماكرون، في خطاب قصير ألقاه خلال زيارته المدرسة التي عمل فيها الأستاذ القتيل، ما سمّاه «عملية إرهابية إسلامية موصوفة. ليست صدفة أن يستهدف هذا الإرهابي مدرّساً، لأنه من خلال ذلك يستهدف الجمهورية وقيمها والتنوير». ودعا رأس الدولة جميع الفرنسيين إلى «توحيد الصفوف، لأن ما يجمعنا أولاً هو القيم المشتركة والتاريخ: هذه الوحدة لا بدّ منها». هذه الدعوة إلى الوحدة، «في مواجهة التوحّش والظلامية»، تَلقّفتها جميع مكوّنات الطيف السياسي الفرنسي، من اليسار إلى اليمين المتطرّف، مع مطالبة متصاعدة بإجراءات أكثر حزماً ضدّ «الإرهاب الإسلامي». وفي سياق متّصل، عرف مقرّر مرصد العلمانية، نيكولا كادين، المدافع عن «علمانية هادئة»، عبر وسائل الإعلام، بقرار استبدال أحد المؤيّدين للعلمانية القسرية التي سادت في السنوات الأخيرة، به. لكن التطوّر الأشدّ خطورة، والذي يشي بالاتجاه الرسمي لشيطنة وتجريم مناهضة الإسلاموفوبيا في فرنسا، هو التصويب على الجمعيات المناهضة للعنصرية، والتي تتمتع بالاستقلالية كـ«مجلس مقاومة الإسلاموفوبيا» في فرنسا. هذه الجمعية، التي تخوض معركة قانونية ضدّ «الإسلاموفوبيا»، تَعرّض مركزها للمداهمة بعد مداهمة مركز «بركة سيتي»، وهي جمعية أخرى تعمل في الميدان الخيري وتُقدّم مساعدات للمعوزين. وقد اعترف وزير الداخلية، جيرال دارمانا، الذي يطالب حالياً بحلّ تلك الجمعيات، بأن مداهمة مقرّاتها «لا علاقة لها بعملية قتل المدرّس، بل برغبتنا في توجيه رسالة إلى مَن يَهمّه الأمر». وبحسب الوزير، فإن الجمعيات المستهدَفة «تروّج للانفصالية ولكون الإسلام أهمّ من قيم الجمهورية».
عندما يعتبر ماكرون أن قاتل المدرّس «أراد إسقاط قيم الجمهورية»، ويزعم وزير داخليته أن المناضلين ضدّ الإسلاموفوبيا يروّجون لـ«القطيعة مع قيم الجمهورية»، فإن الربط يكون قد تمّ بين المناضل المناهض للعنصرية والجهادي. هذا الخطاب، الرائج في أوساط المسؤولين السياسيين الفرنسيين، والذي يفترض وجود علاقات عضوية بين الحركات السياسية المناهضة للعنصرية والجماعات الجهادية، يُذكّر بأطروحات بعض المتخصّصين في الشؤون الإسلامية في فرنسا. أبرز هؤلاء هو جيل كيبيل، الذي دان في كتابه «الجهاد في بلادنا. نشأة جهاد فرنسي»، الصادر سنة 2015، ما يراه تواطؤاً من قِبَل العاملين في منظّمات معادية للعنصرية مع تجنيد لشبّان من قِبَل الجهاديين. ومن دون الذهاب إلى حدّ اتهام المناهضين للعنصرية بكونهم مجرّد واجهات للجهاديين، هو يجزم بأن الصدى الإيجابي الذي تلاقيه الدعاية الإسلامية بين الشبان، يعود إلى الدور التمهيدي الذي يؤدّيه خطاب الجمعيات المناهضة للعنصرية بينهم، والذي يُعزّز قناعتهم بكونهم ضحايا.
يتمّ تحميل مسؤولية تغلغل التيار الجهادي في الضواحي الفرنسية للمناضلين المعادين للعنصرية


يفضي مثل هذا الطرح إلى النظر إلى الإسلاموفوبيا على أنها مجرّد وهم، وتحميل مسؤولية تغلغل التيار الجهادي في الضواحي الفرنسية للمناضلين المعادين للعنصرية، مع تجاهل وِزر الدولة والمجتمع الفرنسيَّين في إنتاج الظروف الملائمة لذلك التغلغل. بطبيعة الحال، هو يتعامى أيضاً عن حقيقة أن الجمعيات المناهضة للعنصرية، عند مقاربتها الإسلاموفوبيا من منظور سياسي، ساهمت في دحض الأطروحات التبسيطية المتطرّفة الناجمة عن اليأس. التحريض ضدّ الجمعيات المناهضة للعنصرية لم يتوقف في الواقع، ويندرج في إطاره التقرير المُعَدّ سنة 2018 من قِبَل كريم القروي، أحد أبرز مستشاري ماكرون المشاركين في صياغة قانونه حول «الانفصالية الإسلامية»، وعنوانه «صناعة الإسلاموية». يدعو القروي في تقريره إلى التعامل مع الإسلام السياسي بجميع أطرافه باعتباره كتلة صمّاء، وإلى تعزيز الترسانة القانونية في فرنسا للتصدّي له بفعّالية أكبر، وهي توصيات وجدت آذاناً صاغية لدى ماكرون وفريقه.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا