اعتقدت أطراف كثيرة بعد عمليات الحادي عشر من أيلول 2001، وشنّ ما سُمّيت بـ«الحرب على الإرهاب»، الذي ضَمّ قوى كثيرة بحسب التعريف الأميركي كان تيار السلفية الجهادية المعولم في مقدّمتها، أن الأولوية بالنسبة إلى واشنطن ستكون مواجهة هذا التيار ميدانياً وسياسياً وفكرياً. قطاعٌ لا يُستهان به من النخب العربية والإسلامية، وبينها نخب إسلامية أو ليبرالية «شيعية»، رأت أن الفرصة أصبحت مؤاتية لحوار «عميق» مع الولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص، والغرب بشكل عام، للتأسيس لعلاقات جديدة على قاعدة التصدّي للعدو المشترك، وهو التطرّف الإسلامي «السني» الصاعد في تلك المرحلة. وقد غَذّت المناخاتُ التي سادت في السنوات الأولى التي تلت غزو العراق في عام 2003 مثلَ هذه الآمال الوردية. طبعاً، بقيَت السياسة الأميركية الفعلية مُوجّهة ضدّ القوى المناهضة للهيمنة في العالم وفي منطقتنا، بمعزل عن خلفياتها العقائدية والفكرية، وفي طليعتها في إقليمنا إيران وسوريا وحركات المقاومة في لبنان وفلسطين. غير أن الطبيعة المعولمة لتيار السلفية الجهادية، وكونه تَحوّل إلى أيديولوجية يتعاظم انتشارها بفضل ثورة الاتصالات، شَكّلا تحدّياً غير مسبوق بالنسبة إلى القيادات الأميركية والغربية. هذه الأخيرة كانت مدركة أن السبب الحقيقي لمثل هذا الانتشار يعود إلى ما وَلّده تضافر حروب العدوان الأميركية والإسرائيلية في طول الفضاء العربي الإسلامي وعرضه، مع الخراب المقيم في مجتمعاته والناتج من سياسات أنظمة التبعية والاستبداد والفساد، من شعور عميم بالمهانة ورغبة عارمة في الانتقام. وما ضاعف من قلق القيادات المذكورة كان قدرة الجهادية المعولمة على اجتذاب أوساط شبابية، في غالبيتها من أصول عربية وإسلامية، في الغرب نفسه، ودفعها إلى القيام بهجمات في عواصمه كتلك التي وقعت في مدريد ولندن وباريس، وعشرات أخرى أُفشلت.
تحدّي التصدّي للجهادية المعولمة، عبر فهم أدقّ لها كظاهرة، وبلورة السياسات الملائمة لحصارها وعزلها بين عامة المسلمين، خاصة الجناح الذي يعتبر قتال الولايات المتحدة أولوية، واحتواء الأجنحة التي تُقدّم الحرب على أعداء آخرين في داخل بلادها أو خارجها، كلّ ذلك حدا بالإدارات الأميركية المتعاقبة وبحكومات غربية عديدة إلى تخصيص موارد مالية ضخمة وتجنيد جيوش من الخبراء والمستشارين لتحقيق هذه الغايات. وازدهرت، منذ تلك الفترة، ما سُمّيت بـ«برامج مكافحة التطرّف»، المُوجّهة إلى المسلمين، والتي باتت مصدراً للارتزاق لبعض نخبهم «المستنيرة». لكن التراجع الملحوظ في قوة وشعبية الجهاديين بتنظيماتهم المختلفة، خاصّة بعد هزيمة «داعش» واضمحلال «القاعدة» من جهة، واحتدام الحرب الهجينة بين محور المقاومة، وفي القلب منه إيران، وبين الحلف الأميركي ـــ الإسرائيلي من جهة أخرى، والتي تفوق مخاطرها وأكلافها بمرّات عدّة الأولى، أيقظا من سباتهم الكثير من المعنيّين الأميركيين بشؤون المنطقة، ولسان حالهم اليوم هو : تَبّاً، لقد نسينا الشيعة!
أحد هؤلاء، وهو أندرو بيك، نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق لشؤون العراق وإيران بين عامَي 2017 و2019، كتب مقالاً لافتاً على موقع «الأتلنتك كاونسيل»، بعنوان «الشيعة ثقب أسود للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط». يشير بيك إلى أن الفارق الجوهري بنظره بين ما يُسمّيه الراديكالية السنية وتلك الشيعية هو المركزية الشديدة السائدة في الثانية، بحكم دور إيران القيادي الذي يحكم حركة الأحزاب والتنظيمات المنضوية تحت لوائها. هو يعتبر أن الإيجابية الرئيسة لسياسة دونالد ترامب حيال الإقليم هي نقل التركيز من الجهادية السنية إلى إيران وحلفائها. غير أن هذا التركيز على المستوى السياسي لم يترجَم انفتاحاً على الواقع الشيعي المتعدّد. يقول بيك إنه «في حال فوز ترامب برئاسة ثانية، فإن أحد الأهداف الأساسية لسياستنا الشرق أوسطية هو استكمال انتقال التركيز على الحالة الشيعية بدلاً من السنية. يجب أن يترافق الانفتاح على بعض أوساطها والرسائل المُوجّهة إليها مع الغارات والعقوبات التي تستهدف أخرى... الغاية ليست جعل الشيعة يُحبّون الولايات المتحدة. قد يكون هذا الأمر حسناً لكنه ليس ضرورياً. الضروري بالنسبة إلى الاجتماع السياسي الشيعي في البلدان التي تسودها تعدّدية في تمثيل الشيعة هو البدء في ممارسة ضغوط على الأطراف الراديكالية والتضييق عليها، ليس فقط من خلال المواجهات والاعتقالات، بل عبر فرض أكلاف سياسية على الأحزاب التي تُمثّلها. لقد رأينا بمعنى ما ترجمة ميدانية لهذا الكلام في العراق في الأشهر الـ18 الماضية. تعميم هذه التجربة في بلدان أخرى يجب أن يكون هدفاً أميركياً».
لا حاجة إلى القول إن لبنان هو على رأس قائمة هذه البلدان، وإن المطروح هو، إضافة إلى تنشيط دور «شيعة السفارة»، الانفتاح على البيئات الشيعية التي تُصنّفها الولايات المتحدة متضرّرة من خطّ المقاومة وأثمانه المرتفعة. وقد يكون الردّ الأبلغ على الاستراتيجية الأميركية الساعية إلى حشر المقاومة في جزء من طائفة هو العمل على بناء جبهة وطنية عريضة عابرة للطوائف، تضمّ الأغلبية المتضرّرة من الهيمنة الأميركية ـــ الإسرائيلية ومن النظام الطائفي المحتضر.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا