بدت باكو ويريفان على وشك الانخراط في حرب، بعدما اندلعت مواجهات عنيفة، أمس، بين الجيش الآذربيجاني والقوات الأرمينية في ناغورني قره باغ، أدّت إلى سقوط عسكريين ومدنيين من الجانبين. ومن شأن اندلاع مواجهة من هذا النوع بين البلدين الجارين في القوقاز، واللذين كانا ضمن الاتحاد السوفياتي السابق، أن يدفع القوّتين الإقليميتين، روسيا وتركيا، إلى التدخّل، وهو ما ظهرت إشاراته، بالفعل، عبر التصريحات التصعيدية التي أطلقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والتي تزامنت مع تقارير عن إرساله مرتزقة من سوريا إلى آذربيجان للمشاركة في القتال.ويعود النزاع الآذربيجاني - الأرميني إلى بداية القرن الماضي، عندما ألحقت السلطات السوفياتية ناغورني قره باغ، الذي تسكنه أغلبية أرمينية، بآذربيجان، عام 1921. غير أنه أعلن استقلاله عام 1991، بدعم من أرمينيا، لتَلِي ذلك حربٌ أدّت إلى مقتل 30 ألف شخص ونزوح مئات الآلاف. وعلى رغم توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار عام 1994، وقيام وساطة روسية - أميركية - فرنسية تحت اسم «مجموعة مينسك»، لا تزال الاشتباكات المسلّحة المتقطّعة قائمة، وكان أهمّها تلك التي جرت في نيسان/ أبريل 2016، وأدّت إلى مقتل 110 أشخاص. وبينما يغذّي النزاع بين أرمينيا وآذربيجان حول ناغورني قره باغ التوتّرات، فقد أفادت باكو، في الأعوام الأخيرة، من احتياطياتها النفطية للإنفاق بشكل كبير على التسلّح، في موازاة حصولها على دعم تركيا، بينما تبقى أرمينيا قريبة من روسيا التي لها قاعدة فيها. وتُعدّ النفقات العسكرية لآذربيجان، الدولة النفطية، أكبر بكثير من كلّ ميزانية أرمينيا. إلّا أن يريفان تنتمي إلى تحالف سياسي عسكري تقوده موسكو، هو «منظّمة معاهدة الأمن الجماعي».
وربطاً بالاشتباك الأخير، تبادلت الدولتان المتنازعتان الاتهامات، إذ أعلنت أرمينيا أن قوات آذربيجان هاجمت مناطق مدنية في ناغورني قره باغ، بما في ذلك عاصمة المنطقة ستيباناكرت، في عملية أسفرت عن مقتل امرأة وطفل، في حين تحدّثت وزارة الدفاع الآذربيجانية عن أن القوات الأرمينية انتهكت وقف إطلاق النار، مضيفة أنها أطلقت «عملية مضادّة لكبح أنشطة القتال الأرمينية وضمان سلامة السكان»، باستخدام الدبابات والصواريخ المدفعية والطائرات العسكرية والطائرات المسيّرة. وتماشياً مع تصريحات هذه الأخيرة، سارعت تركيا إلى تحميل يريفان مسؤولية اندلاع العنف. وقال المتحدث باسم الرئاسة، إبراهيم كالين، على موقع «تويتر»: «ندين بشدة اعتداء أرمينيا على آذربيجان. خرقت أرمينيا وقف إطلاق النار عبر مهاجمتها مواقع مدنية»، معرباً عن دعم بلاده «الكامل» لباكو.
تزامنت دعوات التهدئة مع إعلان أرمينيا وآذربيجان الأحكام العرفية


في المقابل، أعلنت روسيا أن وزير خارجيّتها، سيرغي لافروف تحدّث مع نظيره التركي مولود جاويش أوغلو، مشدّداً على «ضرورة وقف إطلاق النار في أسرع وقت ممكن»، فيما أفاد مصدر دبلوماسي تركي بأن المسؤولَين ناقشا «العدوان الأرميني». كذلك، دعا الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى وضع حدّ للمواجهات. وقال، وفق بيان للكرملن إثر اتصال هاتفي برئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان: «من المهمّ بذل كلّ الجهود الضرورية لتجنّب تصعيد المواجهة، لكن الأمر الأساسي هو وجوب وضع حدّ للمواجهات». وأضاف البيان المقتضب أن «الجانب الروسي أعرب عن قلقه البالغ لتجدّد المعارك على نطاق واسع».
دعوات التهدئة، التي جاءت أيضاً على لسان كلّ من فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي، تزامنت مع إعلان أرمينيا وآذربيجان الأحكام العرفية. وفي هذا الإطار، قال المتحدّث باسم الرئاسة الآذربيجانية، حكمت حاجييف، للصحافيين، إن «الأحكام العرفية ستسري اعتباراً من منتصف الليل، إضافة إلى حظر للتجوّل من الساعة 21,00 حتى الساعة 6,00» في باكو ومدن أخرى والمناطق القريبة من خطّ الجبهة في قره باغ. كما أعلنت آذربيجان أن قواتها دخلت سبع قرى خاضعة لسيطرة الأرمينيين خلال المواجهات العنيفة، وهو ما نفته أرمينيا، التي أعلنت، بالتوازي، الأحكام العرفية والتعبئة العامة. وقال رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان: «استعدّوا للدفاع عن أرضنا المقدّسة»، متّهماً آذربيجان بـ«إعلان الحرب» على شعبه.

الاستثمار التركي في النزاع
تركيا، التي لا تلعب دوراً مباشراً في اندلاع الاشتباك الأخير، كانت السبّاقة إلى الاستثمار فيه، انطلاقاً من أسباب عديدة ولأهداف كثيرة. وقد تَجسّد ذلك في الأنباء عن إرسالها مئات المرتزقة من سوريا إلى آذربيجان للقتال. وعلى رغم نفي حكمت حاجييف، مساعد رئيس آذربيجان للسياسة الخارجية، صحّة هذه الأنباء، إلا أن تقارير سابقة أفادت بأن تركيا بدأت نقل مئات المرتزقة السوريين إلى حليفتها آذربيجان، إلى جانب إجراء مناورات عسكرية مشتركة مع باكو، وتهيئة الأرضية لتأسيس قاعدة عسكرية تركية هناك قرب الحدود مع أرمينيا.
يأتي ذلك بينما لا يزال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ماضياً في فتح جبهات جديدة أمام بلاده، من دون أن يغلق أيّاً منها، بما يتماشى مع طموحاته التوسّعية. «استراتيجيةٌ» لا يتردّد العديد من المحلّلين في وصفها بالغباء السياسي، واضعين إيّاها في خانة التصرّفات غير المحسوبة. لكنّ عدداً من المراقبين يذهبون إلى ربط التحرّكات التركية الأخيرة بالتعمية على مراوحة أنقرة في ليبيا، بينما يرى آخرون أن أردوغان يحاول الاستفادة من الوضع القائم من أجل الحصول على تسوية ما في المقابل، في سوريا وليبيا، وهو ما يعدّونه هدفاً صعب المنال، لا يعدو السعي إليه كونه «خطوة ناقصة».
من جهة أخرى، وبينما يمثّل التصعيد التركي عبئاً على الداخل حيث تتصاعد الأزمة الاقتصادية، يحتمل محلّلون أن يكون تصرّف أردوغان نابعاً من حساباته الداخلية الخاصة، المرتبطة بالمزايدة والتجييش القوميَين، ولا سيما أن الشعب الآذربيجاني ينتمي، عرقياً، إلى الجنس التركي، وأن اللغة الآذرية تعتبر واحدة من أقرب اللغات إلى التركية. وعلى هذا الصعيد، يشير هؤلاء إلى أن آذربيجان تعدّ بالنسبة إلى تركيا جزءاً مهمّاً في عدد من التحالفات الصغيرة والكبيرة، التي تربط مكوّناتها معاً أواصر الجغرافيا الثقافية، مثل «المجلس التركي» الذي أنشئ عام 2009 ليضمّ عدداً من الدول الناطقة بالتركية، مثل قرغيزستان وتركمانستان وأوزبكستان وآذربيجان، و»التحالف الثلاثي»، شمال شرق الأناضول، الذي يضمّ آذربيجان وجورجيا إضافة إلى تركيا، و»التحالف السداسي» الذي يضمّ إلى جانب الثلاثي السابق إيران وباكستان وتركمانستان.
ومن شأن التصعيد في القوقاز، في حال تَحقق للرئيس التركي ما يريد، أن يقوّي نفوذ أنقرة في منطقة حيوية تمتدّ عبرها أنابيب الغاز عالمياً، ويعزّز رصيدها في مقابل موسكو. كما أنه يتيح لأردوغان الانتقام من أرمينيا بطريقة ما، خصوصاً أن يريفان نجحت في وصم بلاده، حين اعترفت دول كبرى في العالم، خلال الأعوام الماضية، بالإبادة العثمانية الجماعية للأرمن خلال الحرب العالمية الأولى. وفي الصورة الأعمّ، يمكن القول إن هذه الجبهة تُجسّد، كما غيرها، حلم «الزعامة» لدى أردوغان، وتُغذّي في مخيّلته فكرة إحياء الدولة العثمانية البائدة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا