لعلّ الصدفة وحدها قادت وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، إلى الدوحة، في الذكرى التاسعة عشرة لهجمات 11 أيلول/ سبتمبر، ليجلس بصفته «عرّاب سلام» إلى مائدة مفاوضات الأفغان، بعدما قرّرت بلاده أن تعتزل حربها الكبرى. حربٌ بيّنت السنوات الطويلة أنها خيضت بلا طائل، أو أنها كانت حرباً للحرب، أو مجرّد هواية لمطاردة «الإرهاب» بعد هجماتٍ لم تأتِ إلّا بمزيد من الدماء والخراب على المنطقة. ولعلّها لم تكن صدفةً بالمرّة، بل جاءت بتوقيت اختاره الأميركيون ليذكّروا العالم بأنهم فعلوا ما فعلوه لسبب، قبل أن يهمّوا بالرحيل من دون تحقيق أيّ هدف. مسألة التوقيت، وعلى رغم أهميتها ربطاً، أيضاً، باقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، إلا أنها تُعدُّ تفصيلاً صغيراً في سياق مشهد أفغاني كثير التعقيدات.بتأخُّر ستة أشهر من الموعد الذي حدّدته ورقة «اتفاق الدوحة»، تطلق العاصمة القطرية، اليوم، نسختها الثانية من «السلام»، هذه المرّة بين الخصمين اللدودين: «طالبان» وحكومة كابول. النسخة الجديدة من شأنها أن تُعزِّز مكانة الدولة الصغيرة كـ»صانعة للسلام»، بعدما استضافت على مدى سنة ونصف سنة مفاوضات بين واشنطن والحركة الأفغانية، انتهت إلى توقيع «اتفاق تاريخي» نهاية شباط/ فبراير الماضي، مهّد الطريق أمام انسحاب تدريجي للقوات الأميركية من أفغانستان، يُستكمل بمغادرة جميع القوّات الأجنبية هذا البلد بحلول ربيع العام المقبل. وبعدما حُلّت عقدة بند «تبادل الأسرى» بوصول آخر ستة سجناء لـ»طالبان» إلى الدوحة، يُتوقَّع أن تمثّل قضية وقف إطلاق النار نقطة الخلاف التالية، نظراً إلى إصرار كلّ طرف على موقفه، ما يمكن أن يهدّد بتطيير المحادثات برمّتها.
سيناريو يقلق الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الساعي إلى الظهور بمظهر «صانع السلام» في خضمّ اتفاقات التطبيع الآخذة في الاتساع قبل أقلّ من شهرين من انتخابات الرئاسة. لتلك الغاية، قرّر إيفاد وزير خارجيته، مايك بومبيو، في «زيارة تاريخية» إلى الدوحة للمشاركة في انطلاق المفاوضات. ودعا الوزير الأميركي، الذي حطّ في العاصمة القطرية يوم أمس، طرفَي النزاع الأفغاني إلى عدم «هدر» هذه «الفرصة التاريخية» لوضع حدٍّ للحرب، معتبراً «(أننا) استغرقنا وقتاً أطول ممّا كنت أتّمنى لنصل إلى هنا، لكنّنا نتوقّع صباح السبت أن يجلس الأفغان إلى الطاولة معاً لإجراء مناقشات شائكة حول كيفية المضيّ قدماً ببلدهم».
تبدو «طالبان» في موقف تفاوضي قوي، يعزّزه ظهورها كجبهة موحّدة


أيّ اتفاق محتمل بين الجانبين بعدما نفض الأميركيون يدهم من «حربٍ لا معنى لها»، على حدّ تعبير المبعوث الأميركي الخاص إلى أفغانستان، زلماي خليل زاد، سيستند إلى استعدادهما لتكييف رؤيتيهما للبلاد وطريقة تشارك السلطة؛ إذ ستسعى «طالبان» التي ترفض الاعتراف بحكومة كابول إلى إعادة إحياء الإمارة الإسلامية التي انهارت في أعقاب الغزو الأميركي، فيما تريد إدارة أشرف غني الحفاظ على المكتسبات التي أرساها الاحتلال. انطلاقاً من هنا، ترى الخبيرة في شؤون أفغانستان في معهد «بروكينغز»، فاندا فيلباب-براون، أن المفاوضات «ستكون طويلة وشاقّة وقد تستمرّ لسنوات، مع العديد من التوقفات أحياناً لأشهر عديدة واستمرار القتال»، ولا سيّما أن الحركة في موقف تفاوضي قوي جداً، يعزّزه ظهورها عموماً كجبهة موحّدة، بخلاف خصمٍ يعاني من خلافات وعداوات لم تبدّدها سنوات طويلة.
أخيراً، يُتوقّع أن تمثّل قضيّة وقف إطلاق النار نقطة الخلاف الأبرز في هذه المحادثات؛ إذ شدّد «اتفاق الدوحة» بين الأميركيين و»طالبان» على أن الأخيرة ستُدرج هدنة دائمة «كبند على جدول أعمال» المفاوضات، على رغم إصرار كابول على الضغط من أجل وقف إطلاق النار منذ اليوم الأول، وهو أمر لن تقبل به الحركة، لكونها «لا تثق بالولايات المتحدة أو الحكومة الأفغانية بما يكفي لوقف القتال، إلى حين التوصّل في محادثات السلام إلى مرحلة يعتبر فيها عناصرها أن جماعتهم ضمنت مصالحهم فعلاً»، وفق المحلّل في «مجموعة الأزمات الدولية»، أندرو واتكينز. وحتى في حالة التوصل إلى اتفاق، فإن مرحلة ما بعده تبقى مبهمة، في ظلّ خشية أحد الطرفين من فقد نفوذٍ صُنع في ظلّ الاحتلال. تقول الخبيرة في شؤون جنوب آسيا من جامعة جورجتاون، كريستين فير، «لنكن واضحين: هذا ليس تفاوضاً في شأن السلام. هذا يتعلق بخروج الولايات المتحدة» من أفغانستان.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا