تبدو الأزمة السياسية في إسرائيل جزءاً لا يتجزّأ ممّا آل إليه هذا الكيان، وإن كانت الدولة العبرية، على الصعيد الإقليمي، تنتقل من تطبيع إلى آخر، مع ترقّب المزيد من العرب الذين «يقفون في الصف» لتحصيل الرضى الأميركي عبر الاتفاق مع تل أبيب. لكن مقابل هذا «النجاح»، ثمّة تردٍّ داخلي واضطرابات اجتماعية، في ظلّ غلبة المصالح الشخصية والخصومات التي لا تنتهي بين المعسكرات وداخلها وكذلك داخل الحزب الواحد، الأمر الذي يُفقِد إسرائيل تلك الميزة التي جمعت مركّباتها طويلاً.قد تكون الأزمة الداخلية الحالية في إسرائيل هي الأسوأ في تاريخها. وبتعبير معلّقين إسرائيليين (صحيفة ذا ماركر - هآرتس): «بدلاً من التهديد الوجودي الذي يجمع الصفوف، نسقط جميعاً في كراهية داخلية، فإسرائيل تتحوّل من تلك الدولة التي مُجِّدت ذات مرة إلى دولة تنهار، ممزقة ومنقسمة بين قبائلها، وكلّ قبيلة فيها تعمل لمصالحها الخاصة على حساب القبائل الأخرى، فيما الدولة الجامعة تعاني من وجود قيادة سياسية تعمل على بقائها السياسي من خلال الانقسام والتحريض عليه وتعزيزه، وإن على حساب الدولة ومستقبلها».
في المشهد الداخلي في إسرائيل، تَعزّزت الشخصانية مكان المصلحة العامة، إلى حدّ الإضرار بالمؤسسات. يكفي، للتدليل على ذلك، أن رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، توصّل إلى اتفاق تطبيع وُصف بـ»التاريخي» مع الإمارات، من دون أن يُعلِم وزيرَي الخارجية غابي أشكنازي والأمن بني غانتس بأيّ شي، لخشيته من أن يشاركاه الفائدة الشخصية جرّاء الاتفاق. بالتوازي مع ذلك، تستعر الحملة اليمينية، وفي مقدّمة مطلقيها رأس الهرم السياسي، على مؤسّستَي القضاء والشرطة، المتّهمتَين بالتحريض على شخص نتنياهو على خلفية محاكمته بجرائم فساد ورشى، حتى وإن أدّى توجيه الاتهامات إليهما إلى فقدان الثقة بهما وانقسام الجمهور بين معارض معادٍ لهما ومؤيّد مجنَّد لمصلحتهما، ليتعمّق بذلك الانقسام الداخلي.
وإن كان ما تقدّم نموذجاً من مؤشرات كثيرة باتت ترسم علامات استفهام حول مستقبل إسرائيل إلى حدّ تحذير بعض الإعلام العبري من الانهيار، إلا أنه يبدو مبكراً المضيّ في هذا التقدير؛ إذ تبدو إسرائيل حتى الآن منيعة أمام معضلاتها، وإن كانت أزماتها تَمسّ بنيانها ولحمة مكوّناتها. مع ذلك، تظهر هذه الأزمات كفيلة بتظهير التناقضات الداخلية للكيان، بما لا يمكن أن تفعل في أيّ دولة سويّة. واحد من تعابير ذلك هو الانقسام الدائر حالياً حيال أزمة فيروس كورونا، بين مَن يعتبرها فرصة ومَن يجد فيها تهديداً، فيما يتركّز الاهتمام لدى السياسيين على كيفية تحويل الفيروس إلى وسيلة قتالية للإضرار بالخصوم، علماً بأن عدّاد الإصابات يزداد خطورة، بعدما تجاوز ثلاثة آلاف وأربعمئة حالة في اليوم الواحد.
رئيس حزب «إسرائيل بيتنا»، أفيغدور ليبرمان، دعا الإسرائيليين إلى عدم الامتثال لقرارات الحكومة في كلّ ما يتعلق بأزمة «كورونا»، كونها قرارات متّخذة على خلفيات سياسية بحسبه، فيما ترفض أحزاب «الحريديم» أيّ إغلاق لمدنها وبلداتها بسبب الواقع الوبائي، بل تُهدّد نتنياهو بفرط الائتلاف الحكومي إن قرّر ذلك، وتؤكد أنها لن تتعاون مع الحكومة في أيّ قرار من هذا النوع. أما نتنياهو فيتّهم معارضيه بأنهم يتسبّبون، عبر اعتراضهم على سياسته في مواجهة «كورونا»، بتقسيم الجمهور الإسرائيلي وشرذمته، معتبراً أن هؤلاء يشجّعون الفوضى ويقوّضون عمليات مواجهة الوباء لدوافع سياسية. لكن موقف رئيس الحكومة لم يمنعه من استثناء عشر بلدات «حريدية» من الإغلاق، الأمر الذي قالت عنه صحيفة «هآرتس» أمس إنه دليل آخر على فشل نتنياهو المشين في إدارة أزمة «كورونا»، وعلى «أن الدولة لا تستطيع أن تعمل عندما يتولى متّهم جنائي منصب رئيس الوزراء، ونتنياهو بتخلّيه وانعدام مسؤوليته يتسبّب بانحدار إسرائيل الى الفوضى».
التقديرات السائدة في إسرائيل تشير إلى أن من شأن أزمة «كورونا» وأساليب مواجهتها المبنيّة على حسابات سياسية أن تُفاقم وتسرّع التبعات السلبية على أكثر من صعيد، الأمر الذي يفسّر نتائج استطلاع جديد للرأي صدر أمس عن مركز «غوتمان للرأي العام وبحوث السياسات في المعهد الإسرائيلي للديموقراطية» (القدس المحتلة). وفقاً لخلاصات الاستطلاع، فإن أكثر من نصف الإسرائيليين (52.4 بالمئة) متشائمون في شأن مستقبل الحكم الديموقراطي في إسرائيل، فيما أكثر من الثلثين (68.4 بالمئة) يعتقدون بأن أيام الحكومة الحالية معدودة.
بينت ينتظر
تشير استطلاعات الرأي إلى أن حزب «يمينا»، برئاسة وزير الأمن السابق نفتالي بينت (حالياً خارج الائتلاف الحكومي)، سيكون الحزب الثاني من حيث عدد المقاعد في «الكنيست» في حال إجراء الانتخابات العامة الآن. ووفقاً لآخر استطلاع للرأي نُشر أمس على «القناة 13»، سيفوز حزب «يمينا» بـ 21 مقعداً (5 مقاعد حالياً)، مقابل 31 مقعداً لـ»الليكود»، فيما يحلّ رئيسه بينت في المرتبة الثانية بعد نتنياهو لتولّي منصب رئيس الحكومة. وتغري هذه الاستطلاعات، بينت، بالمضيّ في استغلال الفرص وإبعاد التهديدات من طريقه، إلا أنه - مع ذلك - يدرك حدود قوّته، وأن ازاحة نتنياهو عن منصبه من دون تحضير المقدّمات التي تصبّ في مصلحته ستؤدّي إلى خسارة مزدوجة في المعسكر اليميني، لن تقتصر على منافسه بل ستشمله هو أيضاً.
تَعزّزت الشخصانية مكان المصلحة العامة، إلى حدّ الإضرار بالمؤسسات


كذلك، يدرك بينت أن فرصة نجاحه تكمن في المحافظة على جمهور معسكر اليمين، مع قضم ما أمكن من مقاعد «الليكود»، وفي الوقت نفسه جذب أصوات من جمهور الوسط. ومن هنا، يمتنع زعيم «يمينا» عن مهاجمة نتنياهو في شأن تجميد الضمّ في الضفة الغربية مقابل إقامة علاقات دبلوماسية مع الإمارات، والهدف «مغازلة» حزب «أزرق أبيض»، وخصوصاً أن المواقف المتطرّفة، وإن كانت تؤمّن له مقاعد إضافية على حساب «الليكود»، إلا أنها تباعد بينه وبين معسكر الوسط، وتُضعف فرصه في تشكيل ائتلاف حكومي لاحقاً. وفي هذا الإطار، تبدو أزمة فيروس كورونا مثالية لتجاوز الانقسامات بين اليمين واليسار؛ إذ يقدّم بينت نفسه منقذاً لإسرائيل من الفيروس، متعهّداً بأنه سيسقط الوباء خلال شهر واحد إن تولّى زمام الأمور، منبّهاً إلى أنه لا يهاجم نتنياهو على خلفية الفساد والرشى، وإنما لأن الأخير «يُركّز على القضايا الشخصية وتتعذّر عليه مواجهة أزمة كورونا».
وبمعزل عن حسابات بينت، فإن نتائج الاستطلاعات تبدو، بالفعل، مقلقة لنتنياهو، إذ إن نيل «يمينا» أكثر من 20 مقعداً، وإن كان الحزب في المعسكر اليميني نفسه، يعني انتظار شروط قاسية من قِبَل بينت، يصعب على نتنياهو قبولها، تماماً كما يصعب عليه تشكيل ائتلاف من دون أصحابها. بناءً على ما تقدّم، تراجعت الانتخابات الرابعة في سلّم اهتمامات رئيس الحكومة مقابل منافسيه، ليصبح متمسّكاً بالائتلاف مع حزب «أزرق أبيض» أكثر من أيّ وقت مضى، على اعتبار أنه وغانتس يتشاركان المصلحة حالياً في الامتناع عن التسبّب بانتخابات مبكرة جديدة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا