تسلك قضية تسميم المعارض الروسي، أليكسي نافالني، طريقها إلى التدويل، بمباركة أوروبية - أطلسيّة. قضيةٌ يسعى الغرب مِن ورائها إلى مضاعفة الضغط على روسيا، في وقتٍ تزدحم فيه الخلافات بين الجانبين، وعلى رأسها تَخوّف الدول الأوروبية من أن تؤدي الأزمة في بيلاروسيا إلى تدخّل عسكري روسي مباشر - لم يستبعده الحليفان -، أو إلى مضيّ موسكو قُدُماً في تطبيق مشروع دولة الوحدة لدرء خطر تحوُّل هذا البلد الفاصل بحكم موقعه الجغرافي بينها وبين «الناتو»، إلى قاعدة أمامية للحلف، فيما لو تنازلت موسكو عن حليفها المأزوم ألكسندر لوكاشنكو.
لا يمكن فصل الدعوة الأوروبية - الأطلسيّة إلى تدويل قضيّة تسميم المعارض الروسي، أليكسي نافالني، عن سياق الحراك الدولي المتصاعد ضدّ موسكو. وفي انتظار أن تتّضح مآلاته، تجيء التطورات في توقيت شديد الحساسية، إن كان لجهة تزايد الضغوط الأميركية لتطيير مشروع "السيل الشمالي 2" لمدّ خطّ أنابيب غاز روسي إلى ألمانيا، أو الأزمة في بيلاروسيا، حيث تبدو روسيا مستعدّة لتدخل عسكري ينقذ حليفها ألكسندر لوكاشنكو الذي يواجه، منذ إعادة انتخابه لولاية رئاسية سادسة في التاسع من آب/ أغسطس الماضي، تظاهرات - مدعومة غربيّاً - تطالب برحيله عن السلطة.
غداة الدعوة الأوروبية إلى تحقيق دولي في قضية تسميم نافالني، والتهديد بفرض عقوبات جديدة ضدّ موسكو، جاء موقف "مجلس شمال الأطلسي" (هيئة صنع القرار الرئيسة في الحلف) الذي عقد اجتماعاً استثنائياً، يوم أمس، لهذه الغاية، متساوقاً. إذ طالب، من جهته، بتحقيق دولي يقتضي أن تكشف موسكو لـ"منظمة حظر الأسلحة الكيميائية" عن برنامجها المرتبط بغاز "نوفيتشوك" للأعصاب. جميع الدول المنضوية في إطار الحلف اتّفقت على إدانة ما وصفته بـ"الهجوم المروّع"، فيما قدّمت ألمانيا، حيث يخضع نافالني للعلاج منذ نحو أسبوعين، إيجازاً لباقي الدول الـ 29 الأعضاء بعد إعلانها عن وجود "أدلة قاطعة" على تعرّض المعارض الروسي للتسميم بواسطة "نوفيتشوك". في الإطار نفسه، أشار الأمين العام لـ"الناتو"، ينس ستولتنبرغ، إلى وجود "إثبات لا شكّ فيه" بأنه تمّ استخدام غاز الأعصاب، معتبراً أن "على الحكومة الروسية أن تتعاون بشكل كامل مع منظمة حظر الأسلحة الكيميائية في شأن تحقيق دولي محايد". وفيما لم يستبعد طرد دبلوماسيين روس على غرار ما حصل إبان تسميم العميل الروسي المزدوج سابقاً سيرغي سكريبال وابنته يوليا بالمادة نفسها، شدّد ستولتنبرغ على أن عمليّة تسميم نافالني، التي تمّت في روسيا، مختلفة كثيراً عن الهجوم الذي تعرّض له سكريبال، على أراضي بلد عضو في الحلف، إذ "نعتقد بشدّة بأن هذا انتهاك صارخ للقانون الدولي، ولذا يتطلب رداً دولياً، لكنني لن أتكهّن الآن في شأن طبيعة الردّ الدولي بالتحديد". وثمّة ما يميّز هذه القضية، وخصوصاً لجهة وقوعها داخل الأراضي الروسية أثناء سفر المعارض من مدينة تومسك إلى موسكو، عندما حطّت الطائرة التي تقلّه بشكل اضطراري في أومسك في غرب سيبيريا، وهو ما تعتقد الدول الغربية أنه يعزّز حججها، على رغم إصرار الكرملين على عدم تحميل الدولة الروسية مسؤولية ما حصل لنافالني، ورفض روسيا، لغاية الآن، فتح تحقيق جنائي يفتقر إلى أدلّة على ارتكاب جريمة.
طالب «الناتو» موسكو بالكشف لـ«منظمة حظر الأسلحة الكيميائية» عن برنامجها المرتبط بـ«نوفيتشوك»


وفيما تعرّضت العلاقات الروسية - الغربية لجرعة إضافية من السمّ بفعل الموقف الأوروبي - الأطلسي المتشدّد، ينذر التحوّل الكبير في اتجاه قضية نافالني، وتحميل روسيا (كون الحادثة جرت على أراضيها) مسؤولية تسميم المعارض الأبرز للكرملين، بتأزُّم لا تزال تبعاته غير واضحة، وخصوصاً في ظلّ تهديد الغرب لروسيا بسلاح العقوبات، في وقتٍ يئنّ فيه اقتصاد الأخيرة تحت وطأة تداعيات وباء "كورونا" وحرب أسعار النفط. ويضاف إلى ما سبق، الضغوط التي تتعرّض لها موسكو لرفع يدها عن بيلاروسيا، حيث ربط الرئيس ألكسندر لوكاشنكو تداعيات قضية نافالني بمحاولة الضغط على الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لثنيه عن التدخل في شؤون مينسك، وربما وقف اندفاعته نحو تطبيق مشروع دولة الوحدة (1999)، نظراً إلى أهمية موقع بيلاروسيا الجغرافي بين روسيا و"الأطلسي" الذي توسّع شرقاً في اتجاه دول البلطيق الثلاث: إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، إلى جانب بولندا. وتنطلق روسيا من واقع أن فقدانها بيلاروسيا سيجعل معظم مناطق الغرب، ومن بينها موسكو وسانت بطرسبرغ، مكشوفة، فيما لو تمدّد "الناتو" إلى الأراضي البيلاروسية، ونَصَب منظومات دفاعية، كما هي الحال في بولندا وجمهورية التشيك. وعلى رغم امتلاكها أسساً قانونية للتدخّل في بيلاروسيا، لا يزال هذا الخيار مستبعداً، وخصوصاً أنه سيزيد من العلاقات المتوتّرة أصلاً مع الغرب، والمرشّحة لمزيد مِن التدهور في مقبل الأيام، على خلفية قضية نافالني.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا