لندن | الجميع في باماكو كان يعلم بأن أيّام الرئيس الماليّ إبراهيم أبو بكر كيتا في السلطة كانت في آخرها، ذلك مع توسّع موجة الاحتجاجات الشعبيّة ضد الفساد وسوء الإدارة والفوضى الأمنيّة التي تضرب البلاد (20 مليوناً)، والتي تعاظمت شكلاً وموضوعاً بعد الانتخابات النيابيّة الأخيرة في آذار/مارس الماضي وشابها تزوير صريح وتغييب قسري على أيدي مجهولين لزعيم المعارضة سوميليا سيسيه الذي لا يعرف مصيره إلى الآن.وبالفعل، واستباقاً لمزيد من التصعيد اليومي ضدّ نظام الرئيس كيتا، المدعوم من فرنسا، والذي كانت أعلنت المعارضة أنه سيستمر طوال الأسبوع لينتهي في تظاهرة رئيسيّة يوم الجمعة 21 آب/أغسطس، تحرّكت النخبة الحاكمة القلقة من فقدان امتيازاتها وأوعزت إلى مجموعة من الجنود والضباط الصغار في قاعدة كاتي العسكريّة الرئيسيّة قرب العاصمة بإعلان التمرّد، ومن ثمّ اعتقال الرئيس ورئيس وزرائه وبعض من كبار كوادره وإجبارهم على الاستقالة.
وقوبلت هذه الأنباء، فور وصولها إلى المحتجين، باحتفالات صاخبة شاركهم فيها الجنود الذين أطلقوا النار في الهواء بكثافة، رغم الصدامات الدامية بين الطرفين خلال الأسابيع الماضية. وقد ظهر الرئيس المعزول لاحقاً عند منتصف ليل الثلاثاء الأربعاء على شاشة التلفزيون الحكومي ليعلن استقالته وحل البرلمان «تجنّباً لإراقة الدماء»، قبل أن يظهر خمسة من العسكر المتمردين غير المعروفين للعموم ليعلنوا عزمهم على تنظيم انتقال سياسي للسلطة إلى المدنيين.
ويبدو هذا الانقلاب الأبيض كأنّه استعادة متجددة لنهج النخبة الحاكمة في مالي؛ التضحية بالرؤساء عبر تحريك العسكر سعياً لامتصاص غضب الكتل الشعبية، من دون تنفيذ أي تعديلات جوهرية لا في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في بنية هيكلية القوّة في البلاد التي تهيمن على نظامها بورجوازية الأقلية العرقية الجنوبية المُحكمة التشبيك مع فرنسا (القوة الاستعمارية السابقة، رغم استقلال شكلي في 1960)، إذ إن الرئيس المعزول كيتا، الذي كان انتخب على رأس السلطة في 2013 وجدّد له في 2018، لم يكن سوى مخرج من حالة تأزم سابقة في 2012 أُنهيت بانقلاب عسكري أطاح حكم الرئيس الأسبق أمادو توماني توري، وهو ما حدث كذلك في 1991 عندما أُسقط نظام الرئيس موسى تراوي، الذي كان بدوره تولى الحكم بعد إسقاط أوّل رئيس للبلاد بعد الاستقلال إثر تجربة ماركسيّة مهجنة لم تعمّر طويلاً.
حكومة كيتا النخبوية قدّمت خلال ثماني سنوات في السلطة أداءً باهتاً تسبب في مزيد من الإفقار للأكثرية في بلد موارده الوافرة من المعادن والأحجار الكريمة تسيطر عليها الدوائر الغربيّة، ويعاني من أسوأ موجة إرهاب داعشي الطابع تسرّبت من الحدود الليبيّة شمالاً بعد حرب «الناتو» على نظام العقيد الراحل معمر القذافي في 2011 والفوضى الشاملة التي تفشت في «الجماهيرية» المتفككة. وهي فوضى امتدت عبر منطقة غرب أفريقيا والساحل الأفريقي بمجملها متسببة في اهتزاز أنظمة النيجر وبوركينا فاسو ونيجيريا والكاميرون، ولا سيّما بعدما تدفقت الأسلحة الثقيلة من ليبيا إلى أيدي المتطرفين. وقد استفاد الدواعش الأفارقة من حالة عدم الاستقرار السياسي في مالي بالذات إثر انقلاب 2012، كما حال التململ بين قبائل الطوارق، لتوسيع مناطق انتشارهم في المناطق الشمالية والوسطى من البلاد، مرتكبين في طريقهم مذابح وتقطيع رؤوس وتفجيرات ونخاسة نساء وتجارة عبيد، مستلهمين جرائم إخوانهم في ليبيا وسوريا، فيما تعرّضت القوات الماليّة لهزائم متتالية بسبب تردد العاصمة في اتخاذ قرارات حاسمة بالمواجهة.
جاهد كيتا وزمرته للبقاء في السلطة بأي صيغة، فوقّعوا في 2015 اتفاقاً للمصالحة مع المجموعات العرقية والإسلامية المتمردة في الشمال، بمن فيها تلك المرتبطة بتنظيمي «القاعدة» و»الدولة الإسلامية» في الصحراء الكبرى ISGS، منح سكان تلك المناطق سلطات حكم ذاتي محلي أوسع، من دون أي مساس بالمصاعب البنيوية للاقتصاد المنهوب شراكة بين الغرب والنخبة المحلية. لكن تلك التنازلات وتدفّق القوات الأجنبية إلى البلاد (20 ألف جندي، فرنسيين وبريطانيّين وآخرين، تحت راية الأمم المتحدة، كما قوّة أفريقية من مجموعة الساحل G5 التي تمولها وتقودها فرنسا وتضم إلى قوة مالية وحدات من تشاد وموريتانيا والنيجر وبوركينا فاسو وميليشيات محلية على نسق الصحوات العراقية) لم يجلبا الهدوء، إذ يسقط ما لا يقل عن معدّل 150 شخصاً شهريّاً في أعمال العنف، ويتصاعد الاستياء الشعبي ليشمل قطاعات متزايدة من الطبقة الوسطى، كما يتزايد السخط في أجواء الجيش، ما اضطر كيتا إلى اللجوء إلى التزوير وسيلة وحيدة لضمان التجديد لذاته في انتخابات 2018 الرئاسية، ثم غيّر حكومته بعدما استقال بعض وزرائه احتجاجاً، ولاحقاً أصرّ على إجراء انتخابات نيابية في آذار/مارس رغم تفشي وباء «كورونا»، زوّرت بالكامل لمصلحة النظام. وعندما تحوّل الاستياء إلى احتجاجات شعبيّة في العاصمة والجنوب، حاولت النخبة الحاكمة السيطرة عليها عبر إطلاق ما سُمّي «حراك 5 يونيو» كمظلّة لتوحيد المعارضة في جسم سياسي يمكن التفاهم معه، وضعت على رأسه رجل دين معتدلاً مرُضًى عنه من الغرب (محمّد ديكو) لكن من دون نجاح يذكر، إذ استمرت الجماهير في تصعيد مطالبها رافضة التنازلات المتتابعة التي حصلت عليها قيادة الحراك، لتصل الأمور إلى حد صدام عنيف بين المحتجين والجيش سقط فيه 15 قتيلاً ومئات الجرحى، حتى لم يعد أمام النخبة سوى التضحية بكيتا شخصياً لمنع حدوث ثورة شاملة، فكان الانقلاب.
ردود الفعل العالمية لم تخرج عن المتوقع، إذ سارع الاتحاد الأفريقي (وهو مظلّة تضم الدول الأفريقية وتخضع للتأثير الفرنسي) إلى إدانة إسقاط كيتا، مديناً على لسان أمينه العام موسى فقي محمد «أي تغيير غير دستوري»، داعياً المتمردين إلى الامتناع عن استخدام العنف بأشكاله كافة. لكن التلويح بمسألة عدم الاعتراف بالتغييرات اللادستورية وفق ما ينص عليه ميثاق الاتحاد ليست سوى ذر للرماد في العيون، إذ لم يتدخّل الاتحاد فعلياً في سلسلة من تغييرات السلطة اللادستورية المنسقة مع الغرب اجتاحت أفريقيا في العقد الأخير (مصر وأوغندا وجزر القمر والكونغو والكاميرون وتشاد وجيبوتي وساحل العاج ورواندا وتوغو) فضلاً عن أنّ عدة دول أفريقية أخرى تواجه قريباً احتمالات لتغييرات لا دستورية لضمان التمديد لحكامها الحاليين، ما يعقّد إمكان اتخاذ أي إجراءات فعلية.
باريس وبقية عواصم الغرب أدانت الانقلاب أيضاً (يتهم المحتجون فرنسا تحديداً بتوفير الدعم والحماية للنخبة الفاسدة وطالبوا بخروج قواتها من البلاد) لكن تلك الإدانات لم تشر مطلقاً إلى سياسات فرنسا و»الناتو» والقوى الغربية التي تتسبب في الأزمة؛ لا الفوضى الليبيّة، ولا سرقة الموارد ودعم طبقة الفاسدين، ولا حتى حربها المزعومة على الإرهاب والتي لا تخرج عن ذات نهج المسرحية السمجة لـ»التحالف الدولي لمحاربة داعش» في سوريا، ويستفيد منها تجار حروب ماليين ومافيات المتاجرة بالبشر والمخدرات.
إذاً، هل نتوقع إعادة لسيناريو 2012 – 2013 عندما أجّلت «النخبة المتفرنسة» سقوطها عبر انقلاب عسكري أتى خلال أقل من عام بحكومة كيتا واجهة «مدنيّة» جديدة للسلطة من دون أي مساس بمصالح الطبقة المهيمنة الحاكمة؟ في الحقيقة، يُلمس في الشارع المالي وجود حالة ثورية أكثر حدّة هذه المرّة، وتبدو قطاعات أوسع من المواطنين وكأنها قد فقدت قدرتها على تحمّل خداع النخبة الفاسدة، وجرح الشمال الذي تديره القوات الأجنبية ولا تنهيه. ولعل الحالة الثورية المتصاعدة في بوركينا فاسو المجاورة تعطيهم إلهاماً. فهؤلاء البوركينيون، وهم يشتركون مع الشعب المالي بتراث ثوري ماركسي قوي منذ حروب الاستقلال في الستينيات، أسقطوا حكومتهم الفاسدة في 2014، ثم أسقطوا حكومة الثورة المضادة التي تلتها، وهم يطالبون السلطات الحاليّة بتسليحهم لإنهاء الحالة المتطرفة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا