بخلاف معظم جوارها الإقليمي، فإن تركيا البلد الوحيد الذي يفتقر إلى موارد نفطية أو غاز طبيعي. وقد استعاضت تركيا عن ذلك، وهذا ما وفره لها موقعها الجغرافي الاستراتيجي لكونها منطقة عازلة - واصلة بين الدول المنتجة (إيران، روسيا، العراق، آذربيجان) والدول المستهلكة (أوروبا)، لتكون مركزاً لتوزيع ولمرور خطوط أنابيب النفط والغاز الطبيعي من الشرق إلى الغرب. وبالفعل، تحوّلت خريطة تركيا خلال سنوات إلى شبكة عنكبوت لخطوط الطاقة من كل الجهات في اتجاه أوروبا. وسعت تركيا، في السنوات الأخيرة، لتكون أيضاً محطة مرور إلزامية وأقل كلفة للنفط والغاز الطبيعي المكتشف في شرق المتوسط. لكن الصراعات السياسية حالت دون ذلك، بل عملت الدول المنضوية في «منتدى غاز شرق المتوسط»، وهي مصر وإسرائيل وقبرص اليونانية واليونان وإيطاليا، لعزل تركيا بعدم دعوتها للانضمام إلى المنتدى. لكن الأكثر تهديداً لطموحات تركيا كان مشروع بناء خط أنابيب «ميدإيست» من إسرائيل ومصر وقبرص إلى اليونان فإيطاليا بطول ألفي كلم وكلفة حوالى 8 مليارات دولار، لنقل الغاز والنفط المكتشفين إلى السوق الأوروبية، والذي تقدر قيمته بثلاثة تريليونات دولار وتغطي حاجة أوروبا على ثلاثين سنة. وهذا كان من أهم أسباب الاندفاعة التركية في شرق المتوسط والتدخل في ليبيا وتوقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين أنقرة وحكومة فايز السراج، والتي تلحظ منطقة بحرية مشتركة بين تركيا وليبيا على امتداد الخط الواصل بين تركيا شمالاً وليبيا جنوباً، وهو ما يعني أن خط «ميدإيست» يحتاج للمرور في تلك المنطقة البحرية إلى موافقة مسبقة من تركيا. مثّلت تلك الاتفاقية تهديداً مباشراً لمصالح منافسي تركيا، لكن الرد لم يتأخر كثيراً عندما وقّعت مصر واليونان اتفاقية ترسيم حدودهما البحرية بحيث اخترقت المنطقة التركية وأفرغت اتفاقية إردوغان – السراج من مفعولها.مع ذلك، فإن تركيا كانت تصبّ اهتمامها في أن تكون دولة نفطية كما في المتوسط كذلك في البحر الأسود حيث يمكنها التنقيب في حدود مناطقها الاقتصادية الخالصة فيهما.
رغبة تركيا الجامحة في أن تكون دولة نفطية كانت من عوامل التوتر في أكثر من منطقة، ولا سيما في شرق المتوسط وشمال أفريقيا. ولا ننسى أن واحداً من أسباب الحرب على سوريا رفض دمشق أن تمرر مشروع خط أنابيب الغاز من قطر إلى تركيا فأوروبا عبر سوريا. وفي سياقات البحث عن دور في الطاقة لم تتردد أنقرة في نسج تفاهمات مع قوى ودول متناقضة ومتصارعة. فعبر تركيا تمر خطوط من إيران ومن العراق ومن آذربيجان ومن روسيا وخلف بعضها الولايات المتحدة الأميركية.
تعتمد تركيا كثيراً في توفير الطاقة لمواطنيها ومصانعها على الغاز الطبيعي، وبلغ حجم استيرادها عام 2019 حوالى خمسين مليار متر مكعب تستهلك منها 45 في المئة وتصدّر الكمية الباقية. ويسهم الغاز الطبيعي في إنتاج 30 في المئة من كهرباء تركيا، ويستهلك ثلثه في المنازل وأقل من الثلث في المصانع والباقي في مجالات أخرى. وتنتج تركيا فقط 0.63 في المئة من حاجاتها للغاز، أي ما يعادل 38 مليون متر مكعب.
يستغرق الاستثمار النهائي لهذه الاكتشافات من سبع إلى عشر سنوات


تشهد نسبة ارتباط تركيا بالخارج في مجال الغاز الطبيعي نقاشاً دائماً. ويتوقف المحللون عند الارتهان السياسي بالدول التي تستورد منها تركيا الغاز الطبيعي.
في العام 2019 كانت نسبة استيراد تركيا للغاز الطبيعي على الشكل التالي:
روسيا: 36.25 في المئة. آذربيجان: 22.14 في المئة. إيران: 15.71 في المئة. الجزائر: 12.69 في المئة. قطر: 4.93 في المئة. نيجيريا: 4.34 في المئة. الولايات المتحدة :2.15 في المئة.
كذلك، فإن تركيا كما يبدو واضحاً من الأرقام أنها ترتبط بروسيا وإيران مجتمعتين بنسبة خمسين في المئة، علماً بأن نسبة الارتباط بروسيا وحدها كانت تتعدى سابقاً خمسين في المئة.
أمّا على صعيد النفط، فإن تركيا تستورد سنوياً ما بين 25 و29 مليون طن من النفط. ونسبة الاستيراد بحسب الدول هي:
روسيا: 32.71 في المئة. العراق: 21.13 في المئة. كازاخستان: 7.52 في المئة. الهند: 6.83 في المئة. إيران: 6.64 في المئة. السعودية: 4.54 في المئة. نيجيريا: 4.39 في المئة.
ويلاحظ هنا أن نسبة استيراد تركيا من إيران تراجعت من 28 في المئة عام 2018 لتصبح 6.5 في المئة عام 2019. والسبب الأساسي لذلك أن تركيا، خلافاً للشائع، قد التزمت بالعقوبات الأميركية على إيران.
إلى جانب ارتباط تركيا بالخارج في مجال النفط والغاز الطبيعي، فإن فاتورة تركيا في الطاقة كبيرة وتثقل كاهل الميزانية التركية، حيث تبلغ سنوياً بحدود أربعين مليار دولار، قد ترتفع أو تتراجع تبعاً لسعر برميل النفط، ومن بينها حوالى 13 مليار دولار لفاتورة الغاز الطبيعي.
أمس، أعلن إردوغان البشرى التي كان وعد بها نهار الأربعاء. وقال إنه تم اكتشاف أحد أكبر حقول الغاز الطبيعي في العالم في حقل «طونه 1» (أي الدانوب 1) في البحر الأسود، والذي قامت به سفينة التنقيب «فاتح». وهي منطقة تقع قريباً من حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة لبلغاريا، وفي منتصف المسافة بين زونغولداق ومصب نهر الدانوب. وقدّر إردوغان الكميات الموجودة بـ 320 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، والتي تسد حاجات تركيا للعشرين سنة المقبلة. ويقول مسؤول اقتصادي تركي إن كلفة الاستخراج لن تتعدى ثلاثة مليار دولار. وأعلن إردوغان أن عمليات التنقيب في البحر المتوسط سوف تتسارع من الآن إلى نهاية السنة. كذلك، أعلن إردوغان أن عمليات التنقيب في منطقة صقاريا البرية واعدة. وبعد كلمة من وزير المالية براءت ألبيرق من على ظهر سفينة التنقيب «فاتح»، قال وزير الطاقة فاتح دونميز، الذي كان برفقة ألبيرق، إن عمليات التنقيب في حقل «طونه 1» سوف تتواصل على عمق أكبر. وقال إن ما اكتشف نقطة تحوّل في تاريخ تركيا.
إعلان إردوغان عن اكتشاف مصادر للغاز الطبيعي في البحر الأسود لا شك يجعل تركيا، في حال لم تكن هناك مبالغة، تتنفس الصعداء ولو نظرياً. ذلك أن الاستثمار النهائي لهذه الاكتشافات يستغرق من سبع إلى عشر سنوات، علماً بأن إردوغان أمل أن يتم بدء الاستفادة من ذلك في العام 2023 (سنة انتخابات الرئاسة). وهذه الاكتشافات تجعل تركيا ضمن نادي الدول المنتجة للغاز الطبيعي، وهي إن لم تصفّر فعلى الأقل تقلل كثيراً من ارتباط تركيا بالخارج على صعيد الغاز الطبيعي، وتوفر عشرة مليارات دولار سنوياً، وتجعلها أكثر استقلالية في سياساتها الإقليمية والدولية، ما يقوّي موقعها تجاه الأصدقاء والأعداء في المرحلة المقبلة في معظم الملفات الشائكة. كما تساعد تركيا على الإطفاء التدريجي لديونها، ولا سيما الخارجية، والبالغة 480 مليار دولار، وتحسّن وضعها الاقتصادي وتخفف الضغوط على الليرة التركية. كذلك، فإن مثل هذه الاكتشافات ستقوّي رصيد إردوغان في الداخل على أعتاب الانتخابات الرئاسية بعد أقل من ثلاث سنوات. أيضاً، سوف ترتفع أسهم وزير المالية وصهر إردوغان براءت ألبيرق، كخليفة محتمل لإردوغان، بعد أن يتقاعد الأخير من العمل السياسي بعد... سنوات!
ومع ذلك، فإن أسماء بارزة في مجال الفن والأدب والموسيقى والسياسة تهكّموا على بشرى إردوغان. الباحث السياسي أرسين قالايجي أوغلو قال إن البشرى الحقيقية هي في العودة إلى النظام البرلماني. وقال الموسيقي البارز زلفي ليفانيلي إن البشرى الأكبر هي في إطلاق معتقلي الرأي والتعبير. وقال البعض إن البشرى هي في إيجاد عمل للعاطلين من العمل والذين تبلغ نسبتهم خمسين في المئة. ورأى سيّد طورون، نائب رئيس حزب «الشعب الجمهوري» المعارض، إن البشرى هي في إعلان إردوغان استقالته، ولن يرضي الشعب التركي أي بشرى سوى استقالة إردوغان. ويقول سلجوف أوزداغ، نائب رئيس حزب «المستقبل» الذي يترأسه أحمد داود أوغلو، إن العالم العربي غني بالنفط، لكن الأهم أن تكون في بلد حر قضاؤه مستقل وحريات التعبير فيه مصونة وإدارته شفافة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا