مع إعادة «آيا صوفيا» مسجداً، يبدو أن كل «المحرّمات» في تركيا في طريقها إلى السقوط، وصولاً إلى إعلان... الخلافة. ما حدث يوم الجمعة الماضي في إسطنبول كان من دون مبالغة أشبه بـ«فتح» جديد للمدينة التي كانت عاصمة للإمبراطورية البيزنطية والعالم المسيحي. لا يقتصر الحديث هنا على ما جرى من مراسم الصلاة والجمهور الذي توافد من أربع أنحاء تركيا وقطع مشياً مئات الكيلومترات، وافترش قبل ليلة وليلتين الساحات والشوارع المحيطة بـ«آيا صوفيا»، ليشهد على «الفتح الجديد». فما رافق الاحتفال من كلمات وما واكبه وتلاه من كتابات ومنشورات ودعوات، كان إشارة، لم يتبرّأ منها أحد، على أن مرحلة جديدة بدأت في تركيا في اتجاه العودة إلى ما قبل سقوط الدولة والخلافة العثمانيتين. وهو ناقوس خطر للبعض وبشارة للبعض الآخر. لكن ما يبدو هو أن تركيا العلمانية، برموزها البشرية والقانونية وبتطبيقاتها الاجتماعية، في طريقها لتكون من الزمن الماضي.لا يختلف الكثير على أن إعادة افتتاح «آيا صوفيا» لتكون مسجداً كانت حدثاً استثنائياً في علاقة تركيا بالعالم المسيحي والإسلامي على حدّ سواء، فضلاً عن دلالاتها السياسية. يسير حزب «العدالة والتنمية»، بقيادة رجب طيب إردوغان، بسرعة على الطريق المؤدي إلى الهدم الكلي لكل ما تأسّست عليه الجمهورية التركية في العام 1923، والتي ظهرت حينها من رحمين: معاهدة لوزان وإقامة نظام العلمنة.
في النتيجة الأولى، لا ينفكّ إردوغان منذ العام 2016 يعتبر الوثيقة المؤسسة للجمهورية، أي «معاهدة لوزان»، باطلة، لأنها فُرضت على تركيا، وحيث فرّط أتاتورك بحدود «الميثاق الملّي». لذلك، يصف إردوغان المعاهدة بالهزيمة، بخلاف وصف أتاتورك لها على أنها «نصر لا مثيل له» أعادت تحرير تركيا وتوحيدها. إعادة تصحيح الأخطاء التاريخية لم تكن بنظر إردوغان سوى العودة إلى الأراضي التي كانت جزءاً من حدود «الميثاق الملّي»، ومنها شمال سوريا وشمال العراق، وتوسيع حدود «الوطن الأزرق»، أي الحدود البحرية، لتشمل ليبيا وتونس وكل شمال أفريقيا، فضلاً عن «استعادة الجزر في بحر إيجه والمتوسط التابعة للسيادة اليونانية. ولم تكن مصادفة أن يعاد افتتاح «آيا صوفيا» في يوم توقيع معاهدة لوزان، أي في الـ24 من تموز/يوليو 1923، وقد صادف أنه نهار جمعة. فالأولوية للتاريخ وليس لليوم، إذ كانت غالبية المغامرات العسكرية لتركيا في السنوات الأخيرة يجري توقيتها وفقاً لمقاييس تاريخية صرفة.
أمّا في النتيجة الثانية، المتعلقة بالنظام العلماني، فلا أحد يستطيع أن لا يرى ذلك المسار المتدرج منذ العام 2002، ولا سيما بعد العام 2011، حين سنحت فرصة «الربيع العربي» لتغيير طبيعة الدولة العلمانية لتكون أكثر تديناً وأقل علمانية، وصولاً إلى يوم التخلص نهائياً من كل أثر للعلمانية. وفي رأس الحقول التي اشتغل عليها «العدالة والتنمية» حقلا التعليم والتربية والمظاهر الدينية. فعلى الصعيد التعليمي، تمر معاهد «إمام خطيب» الدينية في حقبة ذهبية من إقبال الطلاب عليها بالملايين، بعد انتهاء المرحلة الابتدائية.
وفي قلب استهداف النظام العلماني، تأتي حملة تشويه صورة أتاتورك مؤسّس تركيا الحديثة، وهدم كل ما يرمز إليه. من ذلك تغيير معالم ساحة تقسيم في إسطنبول التي تضم النصب الأهم في تركيا للعلمنة وحرب التحرير الوطنية ضد الغزاة الأجانب بعد الحرب العالمية الأولى. وفي موازاة النصب، غير الكبير إجمالاً، مباشرة يكاد يشارف جامع تقسيم على الانتهاء من بنائه وافتتاحه قريباً، ويمتاز بمناراته العالية وبضخامته بحيث يتحول النصب أمامه إلى «نملة». كما تُحثّ الخطى والخطط على طريق إعادة بناء ثكنة المدفع، الضخمة، على مقربة من ساحة تقسيم نفسها التي شهدت عام 2013 انتفاضة غيزي المعترضة على بنائها وقطع الأشجار في الحديقة الموجودة هناك. وقبل ذلك كان استهداف مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول وإغلاقه، والشروع في بناء العديد من المشاريع على أرضه، وإقامة مطار جديد كبير إلى الشمال الغربي من إسطنبول يحمل اسم «مطار إسطنبول»، ليخرج من التداول اسم أتاتورك لدى ملايين السائحين الذين يتقاطرون يومياً على تركيا. وخطة الإساءة لأتاتورك شارك فيها رئيس الشؤون الدينية علي أرباش، الذي ألقى خطبة الجمعة الأولى من «آيا صوفيا»، و«لعن» كل من يحاول أن يغيّر في طبيعة مهام الأوقاف في الإسلام. وكان يقصد بذلك قرار أتاتورك تحويل «آيا صوفيا» إلى متحف عام 1934، رغم أن الجامع يتبع لوقف محمد الفاتح.
وكما اتخذ اردوغان قرار إعادة «آيا صوفيا» مسجداً باسم «سيادة تركيا على أرضها»، كذلك تنقل صحيفة «جمهورييت» أن هناك محاولات للحكومة للخروج من اتفاقية إسطنبول الدولية الخاصة بالمرأة والطفل وحمايتهما والمساواة الاجتماعية وتغليب «الحقوق العثمانية» على «الحقوق العلمانية»، بما يمهّد لإلغاء القانون المدني، الدعامة الأساسية للعلمانية، الذي أقرّ عام 1924.
تأتي حملة هدم كل ما يرمز إلى أتاتورك في قلب استهداف النظام العلماني


«عثمنة» المجتمع وأسماء الأماكن يبدو أنها ستكون أمام مرحلة جديدة وخطيرة. من عناوينها، على ما تتساءل أولكي دوغاناي في صحيفة «غازيتيه دوار»، العمل على نقل العاصمة من أنقرة إلى إسطنبول وفق المبدأ نفسه الذي اعتمد لإعادة «آيا صوفيا» مسجداً، أي تصحيح خطأ اتخذ في العام 1923.
لكن ما بدأ يشيع هو الدعوة المتجددة، التي تكتسب اليوم أهمية مختلفة، إلى إلغاء الجمهورية وإعلان الخلافة من جديد، ودائماً وفق مبدأ تصحيح الأخطاء. وقد اكتسبت هذه الدعوة دلالات جديدة مع تبنّي مطبوعات لها تنتمي إلى مجموعة «البيرق» المقرّبة من حزب «العدالة والتنمية». فإضافة إلى المقالات التي تتحدث عن ذلك، خرجت مجلة «الحياة الحقيقية» الأسبوعية، التي يملكها مصطفى البيرق، العضو في مجلس إدارة صحيفة «يني شفق» التابعة لـ«العدالة والتنمية»، بعدد خاص عن الخلافة كتب على غلافه بالعربية وبحرف كبير «لا إله إلا الله، محمد رسول الله»، وتحتها بالعربية والتركية: «إن لم يكن الآن فمتى، وإن لم تكن أنت فمن؟ تهيّأوا من أجل الخلافة». وإذ تبنّى الكتّاب الإسلاميون هذه الدعوة، فقد ووجهت بانتقادات كثيرة من جانب مسؤولي أحزاب المعارضة.
مسلسل تصفية الحسابات مع العلمانية وأتاتورك، كذلك مع القوى الإقليمية العربية والإسلامية، يواصل اندفاعته. وهو مسلسل تركي طويل بامتياز، ويخبّئ الكثير من المفاجآت. وفي الحالتين، يحقق «بطله» تقدّماً على «الأعداء» في الداخل والخارج.