توافق الأوروبيون، إثر قمّة امتدت لأربعة أيام وفي أجواء سادها التوتر، على إنشاء صندوق يبلغ حجمه 750 مليار يورو، ما يتيح للمفوضية الأوروبية إمكانية الحصول على قروض ضخمة لا سابق لها. يتضمّن هذا المبلغ، أوّلاً، منحاً بقيمة 390 مليار يورو للدول الأكثر تضرراً من الجائحة. وستقوم الدول الـ 27، كل حسب نسبة مساهمته في الثروة الأوروبية، بتسديد هذا القرض بين 2028 و2058. يتضمّن هذا المبلغ أيضاً 360 مليار يورو كديون مباشرة يتم تسديدها من قبل الدول المقترضة.هذه الصيغة للاقتراض المشترك من شأنها أن تسمح للبلدان الأكثر تأثّراً بالأزمة بالاقتراض بشروط ميسّرة للغاية (معدلات للفائدة قريبة من الصفر) وبالتسديد على مدى طويل جداً. وما قد يسهل هذا التسديد هو تأمين موارد جديدة عبر فرض ضريبة أوروبية كرسوم على الشركات الرقمية العملاقة وضريبة على المجموعات الاقتصادية الكبرى ورسم على الانبعاثات الكربونية.
ستكون إيطاليا، التي يعاني اقتصادها من انكماش يتوقّع صندوق النقد الدولي أن يصل إلى نسبة 12,8 في المئة ودين عام يوازي 157 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي، المستفيد الأوّل من دعم يقدّر بحوالى 209 مليارات يورو. لكن الاتحاد الأوروبي يحتفظ بحق الاطلاع على كيفية استخدام هذا الدعم، وينتظر من البلدان المستفيدة منه أن تشرع في مجموعة من الإصلاحات في ميدان الصحّة ونظام التقاعد وأن تعزّز مشاريع الاستثمار الوطنية في مجالَي الطاقة المتجددة والتكنولوجيا البيئية.
هذا الاتفاق الذي اعتبر لحظة تاريخية تطلّب تقديم تنازلات مهمّة لـ«جبهة الرفض» (هولندا والنمسا والدنمارك والسويد) التي عارضت عملياً التضامن مع بلدان الجنوب الأوروبي المتهمة بسوء الإدارة. وحتى نيسان/ أبريل الماضي، كانت ألمانيا، التي أصبحت مع فرنسا مهندسة مشروع التعافي، تعارض بحزم الاقتراح الفرنسي بإصدار سندات باليورو تسمّى «سندات كورونا» تحصل عليها الدول الأوروبية الأكثر تضرراً، من ضمن دين مشترك. ما دفع برلين إلى تغيير موقفها والتفاهم مع باريس على المشروع المذكور هو خطر انهيار السوق الداخلي مع التراجع الخطير في قدرات الإنتاج الصناعي الإيطالي. دول جبهة الرفض، من جهتها، غيّرت بدورها موقفها بعدما خفضت قيمة المنح التي ستقدّم، وكذلك نسبة مساهمتها في ميزانية الاتحاد الأوروبي. وقد أدان العديد من المراقبين دفاع هذه الدول عن مصالحها الوطنية الأنانية ورفضها دعم بلدان الجنوب الأوروبي، بينما هي تستفيد من شبكاتها الإنتاجية. وقد برز في هذا المضمار موقف هولندا الشديد التصلب والمطالب بزيادة التعرفات الجمركية في المرافئ لأن قسماً منها يذهب إلى خزائن الدول.
التموضع في مواجهة الصين هو أيضاً بين الاعتبارات التي تحكم مشروع التعافي


ما زالت ردود الفعل الوطنية السيادية هي القاعدة وليس الاستثناء، على الرغم من كثرة الحديث عن قفزة أوروبية نوعية إلى الأمام نحو الفدرالية والتضامن، ويندرج مشروع التعافي في الحقيقة في إطار مقاربة واقعية للمتغيرات الجارية في السنوات الأخيرة. هو يلبي حاجة ظرفية للتعاون بين الأوروبيين لتجنب انهيار اقتصادات بعض بلدانهم، في ظلّ تحولات جيوسياسية دولية تضيّق من هامش المناورة المتاح لأوروبا. وبينما تقوم الولايات المتحدة باستهداف الصادرات الألمانية، وتبدي الصين أيضاً استعداداً أقل لاستقبال الصادرات الأوروبية، ويركّز كل من البلدين على سوقه الداخلي، يصبح الخيار الوحيد بالنسبة إلى أوروبا هو التمحور حول الذات. فبكين التي كانت قاطرة الانتعاش الاقتصادي بعد الأزمة المالية سنة 2008، وقامت باستثمارات ضخمة في أوروبا، أعلنت أخيراً أن خطتها للتعافي ستكون «صنع لأجل الصين».
التموضع في مواجهة الصين هو أيضاً بين الاعتبارات الجيوسياسية والاقتصادية التي تحكم مشروع التعافي الأوروبي. منذ بداية الأزمة الصحية، ارتفعت حدة التوتر في العلاقات الصينية - الأوروبية، وتجد بكين نفسها اليوم مستهدفة بجملة من الإجراءات التي ينص عليها هذا المشروع، وأوّلها فرض رسوم جمركية عند الحدود الأوروبية على جميع المنتجات المستوردة من خارجها. وقد أعلن شارل ميشيل، رئيس المجلس الأوروبي، ومنسق قمّة دول الاتحاد الأخيرة، بوضوح، أن هذا الإجراء موجّه ضد بلدان كالصين، لا تحترم المعايير الاجتماعية والبيئية وتقوم بالإضرار بمصالح الشركات الأوروبية عبر إغراق الأسواق بمنتجات شركاتها بأسعار لا تستطيع هذه الأخيرة منافستها. وحسب رأيه، فإن الأوروبيين تصرفوا بسذاجة عندما فتحوا حدودهم أمام الشركات الصينية ولم يطالبوا بالمعاملة بالمثل للشركات الأوروبية في الصين. ولكن حتى الآن، بقيت الضريبة على السلع الصينية مجرد إعلان نيات لأن كل ما يتعلق بالسياسة الضريبية ينبغي أن يقرّ بإجماع جميع الدول الأوروبية. وقد اتضح خلال القمة الأوروبية الأخيرة مدى الانقسام حول هذه النقطة بالذات.
لا يزال الاتفاق بين القادة الأوروبيين بحاجة إلى موافقة البرلمانات الوطنية عليه للسماح بعدها للمفوضية الأوروبية بالقيام بالاقتراض. وستتم مناقشته أيضاً في البرلمان الأوروبي، ولن يكون نقاشاً سهلاً. وللتذكير، فإن مشروع التعافي مرتبط بالميزانية الأوروبية بين 2021 و2027 والمقدّرة بـ 1074,3 مليار يورو. بعض النواب الأوروبيين غير موافق على القيمة الإجمالية لمشروع التعافي، وكذلك على التخفيضات التي قررت بالنسبة إلى برامج البحث والتعاون الدولي. وإذا كان من المستبعد أن يعاد النظر في أسس الاتفاق، فإن بعض القضايا التفصيلية كالسياسة الضريبية قد تجري مراجعتها.