المنطق إيّاه الذي يحكم التعامل الإسرائيلي-الأميركي مع البرنامجَين النووي والصاروخي الإيرانييْن، يحكم أيضاً التعاطي مع إيران بشكل عام. المقولة التي تلخص هذا المنطق، بالنسبة إلى البرنامجين هي: «إن لم تستطع تدميرهما، قم على الأقل بتأخيرهما لسنوات أو حتى لأشهر». التعاطي مع إيران من قبل إسرائيل وحلفائها العقائديين-الأيديولوجيين في «حزب الحرب» الأميركي يتم وفقاً لمقولة مطابقة: «إن لم تتمكن من شنّ حرب تدميرية واسعة على إيران، قم بكيل ضربات موجعة متتالية لها لإضعافها قدر الإمكان، قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية». التفجيرات «الغامضة» في هذا البلد هي الترجمة العملية لهذا المنطق، قبل انتخابات قد تأتي بإدارة جديدة برئاسة المرشح جو بايدن، يرجّح أن يعتمد مقاربة أقل تطرّفاً حيال هذا البلد.من يشك في أن هدف من سُمّي بـ«حزب الحرب» داخل الإدارة، أي نواتها الأيديولوجية-العقائدية الملتفّة حول الثنائي مايك بومبيو ومايك بنس، وكان جون بولتون أحد أركانها، كان التأزيم مع إيران، وصولاً إلى الحرب، ما عليه سوى مراجعة كتاب الأخير. هذا هو هدف السياسة التي اعتُمدت حيالها، والتي أدت إلى انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي معها، ومن ثم تطبيق «الضغوط القصوى» ضدها، أي محاولة خنقها اقتصادياً ومالياً، والعمل بدأب على استفزازها وزعزعة استقرارها واغتيال قادتها، كما حصل مع اللواء قاسم سليماني، بالنسبة إلى النواة المذكورة. ومع أن الذهاب إلى حرب مفتوحة قد بات شديد الصعوبة، بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وكذلك بالنسبة إلى إسرائيل، مع جائحة «كورونا» ومفاعيلها، فإن التقدير السائد لدى الطرفين هو أنه من الممكن رفع وتيرة الحرب الهجينة التي تُشن على إيران من دون أن يكون بمقدورها الرد نتيجة تدهور أوضاعها الداخلية، المرتبط بدوره بالجائحة وبنتائج الحصار الاقتصادي والمالي. لكن، وكما أظهرت العديد من التجارب السابقة، فإن غطرسة القوة كثيراً ما تدفع القوى المهيمنة، خاصة في مراحل تراجعها، إلى سوء التقدير.
كتاب جون بولتون، مهما كان الموقف من الرجل، ومن التيار الأيديولوجي المغرق في الرجعية والعنصرية والتأييد لإسرائيل الذي يمثّل، يتضمّن معلومات مهمّة حول السياسة الخارجية الأميركية حيال منطقتنا وكيفية صياغتها. ما يهمّنا هو إدراك بولتون، منذ انضمامه إلى الإدارة كمستشار للأمن القومي، لتباين الأهداف، إلى حدّ التناقض في بعض الأحيان، بين التوجه الذي يجمعه مع بومبيو وبنس، وبين ترامب. هذا الأخير، المقتنع بأن خبرته بعقد الصفقات لا مثيل لها، وبأن ما يصح في المضاربات العقارية يصح أيضاً في السياسة الدولية، أدخل إلى فريقه عناصر معروفين بتشدّدهم المفرط كجزء من استراتيجيته التفاوضية مع الخصوم، لدفعهم للقبول بالتسويات التي يعرضها عليهم، خوف ترجيح الخيارات المرعبة تجاههم التي ينادي بها هؤلاء العناصر المتشدّدون.
«حزب الحرب» كان معنياً بإفشال أي احتمال بتخفيض التوتر في الحد الأدنى


ليس سرّاً أن ترامب عندما شكّل فريقه، قام بمجموعة مقايضات مع قوى وتيارات أيديولوجية وعقائدية مختلفة، حصل على دعمها في مقابل التزامه بتحقيق بعض أهدافها على المستوى الداخلي و/أو الخارجي. تحجيم ما اصطُلح على تسميته «نفوذ إيران في الإقليم»، ومنعها من تطوير قدراتها العسكرية والباليستية هما هدف مشترك بينه وبين التيارات الصهيونية والإنجيلية المتطرفة. غير أن ترامب كان مقتنعاً، كما يؤكد بولتون في الكتاب، بأن الإيرانيين، تحت وطأة «الضغوط القصوى»، سيقبلون في نهاية المطاف بالتفاوض معه وبتقديم تنازلات مؤلمة تتعلق ببرامجهم العسكرية وبموقع بلادهم في الإقليم في مقابل الحفاظ على النظام. هو لا يزال يعتقد أن استراتيجيته التفاوضية «الفذّة» هي التي حملت رئيس كوريا الشمالية، بعد أن هدّد بإزالتها عن وجه الخارطة، إلى الموافقة على عقد قمّة معه، وهو ما يمثّل بذاته انتصاراً هائلاً في نظر ترامب حتى ولو لم ينجم عنه أية تنازلات للولايات المتحدة من قبل هذا البلد. يشير بولتون إلى أن ترامب اشتكى عدة مرات أمامه من عدم قدوم الإيرانيين إليه بحثاً عن صفقة. لكن المهم في الكتاب هو ما يعترف به من إصراره في النقاشات بينه وبين أركان الإدارة على استحالة عقد أية صفقة مع نظام الحكم الموجود في إيران وعلى ضرورة «تكثيف الضغوط عليه اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً».
يذكر سينا طوسي، الباحث الرئيس في المجلس الوطني الإيراني-الأميركي، في مقال على موقع «ريسبونسيبل ستايت كرافت»، كيف أن بولتون رأى في إسقاط إيران لطائرة التجسس الأميركية التي اخترقت أجواءها مناسبة «لتحقيق حلمه بقصف إيران» وكيف أجمع أركان الإدارة على ذلك بداية، ليعود ترامب ويتراجع، مثيراً حفيظته وبومبيو. اتفق الرجلان في ما بعد على عدم الاستقالة قبل أن يبلّغ أحدهما الآخر بقراره قبل الإقدام عليه. يتضح في الكتاب أيضاً أن بولتون وبومبيو نجحا في تخريب محاولات التوسط بين بلدهما وإيران، والتي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. «حزب الحرب» كان معنياً بإفشال أي احتمال بتخفيض التوتر في الحد الأدنى بين البلدين والسعي لافتعال صدام مباشر عندما تتاح أية فرصة لذلك. لا ريب في أن جائحة «كورونا» وتداعياتها قد قادت إلى استبعاد مثل هذا الخيار اليوم. لكن العمليات المتكرّرة التي وقعت في إيران خلال الأيام الأخيرة، وطبيعة المواقع المستهدفة، تظهر تصميماً على رفع مستوى «الحرب الهجينة» المتبعة ضدها من منخفضة إلى متوسطة التوتر. لم يفض المستوى السابق من الحرب، الذي بقي قابلاً للاحتمال من قبل إيران وحلفائها ولم يثنهم عن المضي في مراكمة وتطوير قدراتهم العسكرية، إلى رد يتسبب باحتدامها. من غير المؤكد أن يستمر هذا الأمر في ظل تصعيدها الذي نشهده حالياً.