لا شك بأن دونالد ترامب بات مقتنعاً بأن الأقدار تعاكسه. الأخبار السيئة بالنسبة إليه تتزاحم، وآخرها تلك الصادرة عن منظمة الصحة العالمية حول تزايد أعداد الإصابات بفيروس «كورونا» من 100 ألف حالة في اليوم، خلال شهرَي نيسان/ أبريل وأيار/ مايو، إلى 200 ألف حالة في اليوم حالياً. مجمل التطورات في الولايات المتحدة، على مستوى جائحة «كورونا ومفاعيلها الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك تلك المرتبطة بالشرخ الداخلي المتعاظم حول عنف أجهزة الدولة الأمنية الناجم عن العنصرية المؤسسية، تُضعف يوماً بعد يوم فرص إعادة انتخابه لولاية ثانية.في مثل هذه الحالة، يصبح الخيار الوحيد المتبقي أمامه لمحاولة كسب تأييد قطاعات من الناخبين منوطاً بقدرته على إقناعهم بأنه الشخص الأنسب للتصدي للتهديد الصيني، المصنف وجودياً بإجماع النخب السياسية الأميركية. هذا ما يفسّر وصفه لكورونا بـ«الفيروس الصيني» واتهامه لبكين بتعمد التعتيم على الجائحة في بداياتها، لتصل إلى الولايات المتحدة وتتسبب بالويلات التي رأينا، من أجل دفع الأميركيين إلى عدم التصويت له، والسماح بفوز جو بايدن، الأضعف تجاهها بنظره طبعاً.
وكان ستيف بانون، الذي أدى دوراً حاسماً، في إدارته لحملة دونالد ترامب الانتخابية السابقة، في انتصاره، قد رأى في مقابلة مع موقع «آسيا تايمز» أن الانتخابات الأميركية «ستتمحور حول الصين»، ونصح الرئيس الأميركي في التركيز، خلال حملته القادمة، على ما سمّاه «حرب الحزب الشيوعي الصيني على أميركا» وعلى «صلات جو بايدن الصينية». وبمعزل عن هذه النصائح، فإن ما يؤكد محورية الصين في الانتخابات الرئاسية الأميركية أيضاً هو الهجوم المضاد الذي شرع به خصوم ترامب، في الولايات المتحدة وبين حلفائها الأوروبيين، والذي ينطلق من فكرة أن لا أهلية لترامب للفوز في المواجهة مع الصين وبأن الأخيرة تفضله على خصمه الديموقراطي.
عجلة الاقتصاد الأميركي عادت لتعمل ببطء، أمّا عجلة «صناعة العدو»، فهي تدور بسرعة. لا يتوقف المسؤولون الأميركيون عن كيل الاتهامات للصين، أو ما يطلق عليه «صفع الصين» (China Bashing)، بهدف شيطنتها وتحويلها إلى العدو الرئيسي لعامة الأميركيين، أي «إمبراطورية شر جديدة» على غرار الاتحاد السوفياتي السابق. مدير «أف. بي. آي»، كريستوفر راي، انضم بدوره إلى هذه الحملة عندما قال، خلال محاضرة في معهد هادسون في 7 تموز/ يوليو الحالي، إن «مكتب التحقيقات الفدرالي الآن أصبح يفتح كل 10 ساعات قضية جديدة لمكافحة التجسس تتعلق بالصين. فمن بين ما يقرب 5000 حالة مكافحة تجسس يجري العمل عليها حالياً في أنحاء البلاد، هناك ما يوازي نصفها يتعلق بالصين». وهو أكد أن هذه الممارسات تجعل من الصين «أعظم تهديد على المدى الطويل لمستقبل الولايات المتحدة».
«انتخاب جو بايدن أخطر بالنسبة إلى الصين لأنه سيعمل بالتعاون مع الحلفاء»


لكن هذه المواقف المتشددة حيال الصين، الصادرة عن ترامب وأقطاب إدارته، وسياساتهم التي لا تقل تشدداً، لا تقنع الكثيرين، وبينهم مجموعة من الأعضاء البارزين في الحزب الجمهوري، وهذا الأخطر بالنسبة إلى ترامب، بأهليته على خوض الصراع معها ونجاحه في حسمه لمصلحة بلاده، بل وهم مقتنعون باستعداده لعقد صفقات سرية معها لا تخدم مصالحها. يجتمع هؤلاء في إطار منظمة تدعى «مشروع لينكولن»، واختيار اسم الرئيس الذي وحد الولايات المتحدة متعمد في مقابل ترامب الذي يقسّمها الآن، وهم يشنون حملة شرسة في وسائل الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي ضده في أوساط القاعدة الانتخابية الموالية للحزب الجمهوري، ويدعون إلى التصويت ضده، أي لمصلحة جو بايدن، كفعل وطني لكفّ أذاه عن «البلاد والجمهورية والدستور». وقد شكل صدور كتاب مستشاره السابق للأمن القومي، جون بولتون، مناسبة لهذه المنظمة لتصعّد حملتها عليه وتتبنّى في أفلامها الدعائية الاتهامات الواردة فيه حول طلب ترامب من الرئيس الصيني مساعدته على الفوز بالانتخابات ودعمه لسياسته حيال أقلية الإيغور. وعلى الأغلب، فإن هذه الهجمة على الرئيس الأميركي، معطوفة على الظروف الداخلية الصعبة الناجمة إلى درجة كبيرة عن السياسات التي اعتمدها، ستساهم في زعزعة قناعات قسم من قاعدته الانتخابية في صوابية التصويت له.
المصاعب الجدية التي يواجهها ترامب مع اقتراب الانتخابات وفّرت أيضاً فرصة للعديد من الأطراف الأوروبية لمحاولة التأثير في خيار الناخبين الأميركيين لغير مصلحته عبر التصويب على أكثر القضايا حساسية: أهليته على قيادة مواجهة المعسكر الغربي مع الصين. صحيفة «اللوموند»، التي تعكس وجهة نظر وحساسيات قطاعات من النخب الفرنسية والأوروبية، اعتبرت في مقال بعنوان: «شي جين بينغ يصوّت بيديه الاثنين لمصلحة دونالد ترامب» أن الأخير «يتبع سياسته حيال الصين وحيداً، ويتجاهل أو حتى يهين حلفاءه في أوروبا وآسيا. إذا أصبح جو بايدن رئيساً فسيتبع السياسة المعاكسة تماماً. فهو سيبحث عن الدعم عند سعيه للتفاوض من موقع قوة مع الصين. وكان زو شياومينغ، عضو وفد التفاوض التجاري الصيني السابق، وممثل بلاده الحالي في جنيف، قد أسرّ لوكالة بلومبيرغ، بأن انتخاب جو بايدن أخطر بالنسبة إلى الصين لأنه سيعمل بالتعاون مع الحلفاء، بينما ترامب يقوم بتدمير تحالفات بلاده». كريس باتن، مسؤول العلاقات الخارجية الأسبق في المفوضية الأوروبية، وآخر حاكم بريطاني لهونغ كونغ، ذهب في الاتجاه عينه في مقابلة مع مجلة «لو بوان» عندما وصف ترامب بأنه «هدية من السماء للصين». وهو يضيف إنه «بدلاً من تشكيل جبهة موحدة من الديموقراطيات الليبرالية، يقوم بمهاجمة حلفائه مستنداً إلى رؤية حمائية ومركنتيلية». ومع احتدام المعركة الانتخابية، واحتلال مسألة المواجهة مع الصين وكيفية خوضها موقعاً مركزياً فيها، سيشتد الهجوم على أداء ترامب وعدم تركيزه عليها بوصفها على رأس جدول أولويات السياسة الخارجية الأميركية، وتفترض تعزيز تحالفات الولايات المتحدة، وتجميد أو تبريد حدّة الصراعات مع دول أخرى في العالم.