بانضمام جون كيلي إلى البيت الأبيض، كبيراً للموظفين، ومساعيه لضبط فوضى رئاسة ترامب، خشي بولتون خسارة امتياز زياراته للمكتب البيضاوي. زياراتٌ كانت تهدف أولاً إلى تسويق نفسه مرشحاً دائماً لمنصبَي وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي، وثانياً الدفع بسياسته الخارجية، ولا سيّما تلك الخاصة بإيران. اعتقد، وفق ما يوثّق في كتابه «الغرفة التي شهدت الأحداث»، بأنه «لن يسمح لخطّته الإيرانية بأن تذبل»، وهو ما دفعه إلى نشر تصوّره للحلّ في «ناشونال ريفيو» في نهاية آب/ أغسطس 2017. وبعدما ندّد ظريف بـ«الخطة» بوصفها «فشلاً كبيراً لواشنطن»، عَلِم بولتون بأنه «على الطريق الصحيح». سرعان ما سُمعت أصداء الخطة في البيت الأبيض، ودُعي بولتون للقاء كوشنر في البيت الأبيض، من أجل إطلاعه على الخطّة الناشئة للسلام في الشرق الأوسط (صفقة القرن)، إلى جانب الحديث عن إيران.لم يسمع بولتون مِن ترامب، رغم اقتراب شهر تشرين الأول/ أكتوبر، موعد إقرار الرئيس بالتزام إيران الاتفاق بموجب «قانون مراجعة الاتفاق النووي الإيراني» الذي يلزم الرئيس بأن «يقرّ» كل 90 يوماً أمام الكونغرس بأن الجهورية الإسلامية تحترم الاتفاق بشكل كامل. قرّر بولتون أن ينتفض ويطلب موعداً من الرئيس. كانت الفوضى تعتمل، مجدداً، في البيت الأبيض، مع قرب إقالة تيلرسون. هَمُّ «المستشار» اقتصر على إيران، ولا شيء غيرها. لقاء جديد عُقد بينه وبين كوشنر في 9 تشرين الأول لبحث «صفقة القرن» وإيران. وقتها، تحدّثت التسريبات الإعلامية عن أن مستشاري الرئيس يحاولون إقناعه بالتزام الاتفاق، في موازاة رفض المصادقة عليه. وكان الاتصال أخيراً في الـ 12 مِن ذلك الشهر: «كلانا متّفق في شأن الصفقة النووية»، بحسب ما ينقل بولتون عن ترامب. وطلب الأوّل مناقشة المسألة بشكل أعمق، قبل أن يثير الرئيس مسألة الحرس الثوري في سياق سؤال عمّا إذا كان يجب إدراجه كـ«منظمة إرهابية». الفكرة أثارت حماسة بولتون الذي حثّ الرئيس على التنفيذ الفوري، معلّلاً ذلك بـ«سيطرة الحرس على برنامج إيران النووي وبرامجها للصواريخ البالستية، فضلاً عن دعمه الواسع للإرهاب الإسلامي الراديكالي، سنيّاً وشيعيّاً». لكن ترامب أبدى خشيته مِن أن تستهدف إيران القوات الأميركية في العراق وسوريا، في ما لو أقدم على تصنيف الحرس «إرهابياً». يورد بولتون: «علمت لاحقاً بأن ذلك كان موقف (وزير الدفاع) ماتيس»، وهي حجّة يصفها بـ«الخاطئة»، لكون صوابيتها تعني «توفير المزيد مِن الحماية لقواتنا أو سحبها من أجل التركيز على التهديد الرئيس: إيران». عاد بولتون إلى البيت الأبيض في 16 تشرين الثاني من أجل مناقشة خطة كوشنر للسلام، وحثّ الأخير على الانسحاب من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ووقف تمويل «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (أونروا) (بداية عام 2018، قلّصت الولايات المتحدة حجم تمويلها للوكالة). مع بداية الشهر الأخير من عام 2017، نفّذ الرئيس الأميركي أحد وعوده الانتخابية بإعلانه القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها. إعلانٌ سبقه بأيام اتصال ترامب ببولتون لسؤاله عن الخطوة، وما كان من الأخير إلا إبداء دعمه. لم يكن ذلك لينتج أزمةً في الشارع العربي، يقول الكاتب، بعدما حوّلت معظم الدول العربية انتباهها إلى التهديد الحقيقي: إيران، وليس إسرائيل. في السابع من كانون الأول 2017، عاد بولتون إلى البيت الأبيض من أجل الحديث عن إيران وكوريا الشمالية. شرح للرئيس بعض الروابط بين «الدولتين المارقتين»، وكيف ولماذا ستعمل ضربة استباقية ضدّ برنامج كوريا النووي والصاروخي، وكيف يمكننا استخدام قنابل تقليدية ضخمة ضدّ بيونغ يانغ شمال المنطقة المنزوعة السلاح، وتالياً تقليل حجم الخسائر. اقتصرت البدائل الأخرى على إعادة توحيد شبه الجزيرة تحت قيادة الجنوب أو تغيير النظام في الشمال، وكلا الخيارين يتطلّب تعاون الصين. سأل ترامب بولتون: «ما رأيك في فرص الحرب مع كوريا الشمالية؟»: «قلتُ إنني أعتقد بأن كل هذا يتوقف على الصين». وفي لقاء آخر جمعهما في آذار/ مارس، أكّد الرئيس أنه قرّر الانسحاب من الاتفاق النووي: «لا تقلق، سأنسحب من الاتفاق. قلت: يمكنهم محاولة إصلاحه، لكن هذا لن يحدث».
خشي ترامب استهداف إيران القوات الأميركية في المنطقة إذا صنّف الحرس «إرهابياً»


بالفعل، خرج ترامب من الاتفاق النووي، وحقّق بولتون «حُلمه»، ولكن لم يلبث أن واجه «مساعي» جديدة قضّت مضجعه، تمثل بعضها في الدفع الأوروبي باتجاه الحفاظ على الاتفاق، ومحاولة هؤلاء تغيير رأي ترامب. أمّا التهديد الأبرز لمقاربته الإيرانية، فقد جاء من قبل الرئيس الياباني شينزو آبي، الذي لعب دور الوساطة خلال زيارته لإيران، في محاولة لإعادة إطلاق المفاوضات حول اتفاق نووي جديد.
بحسب بولتون، «أعرب ترامب، خلال زيارته اليابان، عن اعتقاده بأنّ إيران كانت تنازع وكان عليها أن تعقد اتفاقاً... وحثّ آبي على الاتصال بالإيرانيين وإخبارهم بالأمر بعد مغادرته اليابان». بل إنّ ترامب ذهب إلى حدّ الاعتقاد «بأنه يمكنه القيام بالمفاوضات في يوم واحد، وليس إطالتها على مدى تسعة إلى 12 شهراً». من جهة أخرى، أشار بولتون إلى أن ترامب «كان أيضاً جاهزاً للذهاب إلى الحرب إذا ما وجب عليه ذلك».
بولتون يصف تلك الفترة بالقول إنه «كان حول ترامب العديد من الأشخاص الذين أرادوا الذهاب إلى الحرب، ولكن هذا الأمر لن يحصل أبداً بسببه». وهنا ينتقل للسخرية من رئيسه، قائلاً: «ترامب عتيق، ينتقل من صفقة في يوم واحد، إلى حرب شاملة في مجرّد ثوان». في المحصّلة، «قال آبي إنه سينقل رسالة ترامب، طالباً أن نقدّم مقترحاً يمكن أن ينقله إلى إيران»، الأمر الذي ردّ عليه ترامب، مشدّداً على أنّه «يجب على آبي أن يعمل على الأمر بأسرع وقت ممكن».
بعد زيارة اليابان، توجّه بولتون إلى لندن، ولكنه نزل ليلة «للراحة» في أبو ظبي، حيث سنحت له الفرصة للقاء ولي العهد محمد بن زايد في 29 أيار / مايو. «كان ابن زايد والإماراتيون قلقون من عدم ردّنا على استفزازات إيران الأخيرة، وسرعة انتقال الصواريخ والطائرات من دون طيار إلى أيدي الحوثيين والميليشيات الشيعية في العراق، ومساعدة إيران لطالبان وداعش في أفغانستان»، قال بولتون. وإذ أشار إلى أنّ «الإماراتيين لم يفهموا لماذا أراد ترامب التحدّث إلى إيران»، أضاف: «حاولت، من دون جدوى، أن أشرح فكرة ترامب، وأنّ الحديث لا يعني حقاً، أو أنه لن يؤدي إلى شيء آخر غير التحدّث». ولكن «ولي العهد والخليجيين لم يوافقوا على ذلك، والأهم هو أنّ الإيرانيين لم يوافقوا أيضاً. لقد نظروا إلى الأمر على أنه ضعف». لم ينتهِ أمر المخاوف الخليجية عند هذا الحدّ، إذ يضيف بولتون أنه بعدما وصل إلى لندن، تواصل معه مستشار الأمن القومي السعودي مسعد بن محمد العيبان، وأخبره بأنّ ولي العهد محمد بن سلمان أراده أن يعرف مدى استيائه من توجّه آبي إلى إيران. ورداً على ذلك، قال بولتون: «حثثته على أن يطلب من ولي العهد الاتصال بترامب مباشرة، معتقداً بأنه يملك حظاً أوفر مني».
من الواضح أنّ بولتون سعى، بدوره أيضاً، إلى عرقلة الخطوة اليابانية، إذ إنه يشير إلى «أنني أردت إبقاء أكبر مسافة ممكنة بين اليابان والأوروبيين، لأنني أعتقد بأنّ هدفيهما كانا مختلفين للغاية، غير متناسقين في الواقع». ولكن يوم الحظ بالنسبة إليه كان الاثنين 10حزيران / يونيو، حين «تحدثت مع ترامب عن كيفية تقدّم خطط آبي، في مناقشتنا». أوضح ترامب أنّ فكرة آبي مقبولة فقط «إذا أبرموا (إيران) الصفقة». وبحسب بولتون، فإن «هذا لا يعني التنازل الآن، ولكن فقط بعدما تتخلّى إيران، بشكل مرضٍ، عن الأسلحة النووية». «كان هذا فرقاً حاسماً. اتصلت ببومبيو لأخبره بالخبر السار، وقال أعتقد بأنّ الأمر انقضى، وهذا يعني أننا كنّا خارج الخطر، على الأقل في الوقت الحالي».
«الخلاصة كانت واضحة: مهمة آبي فشلت. إيران صفعته على وجهه، مستهدفة السفن المدنية القريبة من شواطئها، والتي كانت من بينها واحدة يابانية، وذلك في الوقت الذي كان يلتقي فيه (المرشد الإيراني علي) خامنئي». «مع ذلك، كان اليابانيون في حالة إنكار، ربما في محاولة لحماية آبي من الإذلال الذي حثّه عليه ترامب»، يخلص بولتون.