جلّت ستينيات القرن العشرين وسبعينياته نضالاً مشتركاً التزمت بموجبه الطبقة العاملة مِن العرب والثوار السود، بنبذ الصهيونية وتفوّق العرق الأبيض (على التوالي). في مؤتمر يساري (أيلول/ سبتمبر 1967)، طرحت مجموعة مِن منظمات اليسار الراديكالي قراراً مِن 13 بنداً تضمَّن «إدانة الحرب الصهيونية». وفي عام 1973، دفع ألفا عضو مِن «تجمُّع العمّال العرب في ديترويت» إلى جانب عمّال سود في اتجاه إضراب لمدّة يوم واحد، على خلفية استثمار النقابة في السندات الإسرائيلية.امتدّت النضالات المشتركة إلى محاربة وحشية الشرطة. ففي عام 1973، قاد منظّم «عمّال المزرعة المتحدة»، ناجي ضيف الله، إضرابات عمّال مزارع العنب في كاليفورنيا، وقتل على يد ضابط شرطة. في عام 1975، تحدّثت نشرة تصدر عن منظمة عمالية عن مقتل اثنين مِن عمال السيارات اليمنيين على يد شرطي أبيض في ديترويت، واصفةً ما حدث بالجريمة على أيدي «بلطجيين عنصريين»، وخلصت إلى أن «العنصرية لا تنطبق فقط على السود في هذا البلد».
أثارت حادثة إطلاق الشرطة النار على المراهق الأسود، مايكل براون، وهو أعزل، انتفاضة في فيرغسون. الجريمة هذه تقاطعت مع حرب إسرائيلية على قطاع غزة صيف عام 2014. وبينما اختبرت الشرطة الأميركية استراتيجيات جديدة لمراقبة المتظاهرين في فيرغسون، كانت إسرائيل تختبر أسلحتها ضدّ الغزيين الذين شاركوا، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، النصائح مع المتظاهرين حول كيفية حماية أنفسهم من الغاز المسيّل للدموع، وكتبوا رسائل تضامن ودعم لهؤلاء، تحت وسم #Palestine2Ferguson.
مجدّداً، لم يكن الفلسطينيون والعرب عموماً مجرَّد متفرِّجين حين تعلَّق الأمر بالعداء المنهجيّ للسود، بل كانوا ضحايا القمع المنظّم ذاته. في عام 2016، قام عامل متجر يمني يدعى عبد الله مفلاحي بتصوير جريمة قتل الشرطة لألتون سترلينغ في باتون روج (لويزيانا)، وهو ما شكَّل دليلاً يناقض ادّعاء الشرطة بأن سترلينغ كان يحمل سلاحاً.
كضحايا لعنف الجيش والشرطة، عادت قضية شائعة بين السود والعرب إلى الظهور في الاحتجاجات الحالية. رُسمت أوجه شبه بين القمع الذي يتعرّض له الفلسطينيون على أيدي الجيش الإسرائيلي، ووحشيّة الشرطة الأميركية ضدّ السود. وشاركت في التظاهرات التي عمّت المدن الأميركية على خلفية مقتل جورج فلويد، جاليات عربية ومسلمة، ولا سيما في ديترويت وشيكاغو ونيويورك، ومجموعات مثل «حركة الشباب الفلسطيني» و«يو إس بي سي إن» (شبكة المجتمع الفلسطيني ــــ الأميركي).
اتخذ التضامن بعداً أمميّاً. في فلسطين، كما غيرها مِن بلدان المنطقة، بيّن وسم «أميركا تنتفض» تضامنَ منطقة شديدة التأثُّر بعنف الدولة الأميركية، مع ضحايا الاستعمار الداخلي. لكن دعم الشباب العربي قوبل ببعض التوتُّر والخلاف مِن قِبَل أصحاب الأعمال الصغيرة من العرب، الذين أبدوا قلقهم مِن نهب متاجرهم خلال أعمال شغب. قلقٌ ثبّط قدرتهم على تقديم الدعم الكامل لأولئك الذين يتظاهرون ضدّ مؤسسة الشرطة. ترافقت التظاهرات، في بعض الأحيان، مع أعمال شغب ونهب، بدءاً بنهب متجر «تارغت» في مينيابوليس المتواطئ مع شرطة المدينة في عمليات المراقبة، والذي رفض بيع الحليب للمتظاهرين، الوسيلة الشائعة للحدّ من آثار الغاز المسيل للدموع.
لم يكن الفلسطينيون والعرب عموماً مجرَّد متفرِّجين حين تعلَّق الأمر بالعداء المنهجيّ للسود


يقول عباس بزي إن «غالبية العرب متعاطفون مع جورج فلويد، والمجتمع الأسود بشكل عام... ولكن حين بدأ النهب في مناطق توجد فيها شركات عربية، بدأ التحوّل لدى البعض، وذلك متوقّع». انجذب العرب إلى فتح شركات، مثل محطات الوقود ومحالّ الخمور في هذه المناطق، نظراً إلى الضرائب العقارية المنخفضة. نتيجة لذلك، تطورت ديناميّات القوة بين أصحاب الأعمال العرب والمجتمعات التي يخدمون فيها، إلى ديناميّة غير متكافئة وغير صحيّة. وتسلِّط صورة جرى تداولها لأصحاب متاجر أميركيين عرب في شيكاغو، يحرسون متاجرهم بالسلاح، الضوء على التناقضات المتأصّلة لدى هؤلاء لكونهم مشتبهاً فيهم في الولايات المتحدة، ما يعني استيعاب هويّتهم ضمن منظومة الممتلكات ورأس المال، وأدوات المجتمع الرأسمالي التي تستهدفها أعمال الشغب. في هذا السياق، يضيف بزي: «سمعت عن محاولات لأناركيين بيض، من خارج المدينة، افتعال أعمال شغب ونهب في ديترويت، ولكن تم إيقافهم...»، نظراً إلى أن نافذة واحدة لم تُكسر في ديترويت أو في أيّ من مناطق جنوب شرق ميشيغان. استغلال بعض العرب لرواية المحرِّض الأبيض، كان، في بعض نواحيه، تكراراً لروايات الإعلام. روايات استتبعت لاحقاً بحديث الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن الحركة المناهضة للفاشية «أنتيفا» بوصفها منظمة إرهابية، ما يعيدنا إلى اتهام رؤساء الشرطة الجنوبيين في عصر الحقوق المدنية، الشيوعيين البيض والمحرِّضين بافتعال احتجاجات كبيرة وعصيانٍ مدنيّ.
بالنسبة إلى بعض عرب ديترويت وشيكاغو، خلقت ديناميّات الضواحي الحضرية السياق المناسب لتكرار هذا المجاز، ربما في محاولة للتقليل من شأن الغضب الأسود من الستاتكو الفاسد الذي عزّزوا هم، كمهاجرين، سلطتهم فيه. ذلك أن الاعتراف بإخفاقات هذا النظام، وتبرير اضطرابه الجذري مِن شأنهما أن يهدّدا نظاماً يستمدّ منه هؤلاء الامتياز والازدهار الفردي.
لكن سامر جودة الذي يملك ستة مطاعم في شيكاغو، لم يتردّد في دعم الاحتجاجات، رغم تأثّره بأعمال التخريب. ويدّعي أن قرار رئيس البلدية إغلاق جسر رئيسيّ إلى وسط المدينة الغني، حيث بدأت التظاهرات الحاشدة، دفع الاضطرابات إلى الجزء الجنوبي من المدينة، حيث يوجد الكثير من الشركات العربية. يقول إن هذا هو الوقت الذي انطلق فيه الخطاب العنصري في المجتمع العربي، وهو ما يشجبه بشدة، ويدعو العرب «إلى النظر إلى ما وراء الجدران الأربعة لأعمالهم»، من أجل «رؤية الصورة الأكبر». ويذكِّر أيضاً بأن «الولايات المتحدة تهمّش نسبة كبيرة من سكانها»، إذ إنها لا تمنح هؤلاء الفرص ذاتها.
في حين استمر حرمان المواطنين السود مِن السكن والرهون العقارية في المجتمعات الأميركية، وتالياً تفاقم ظاهرة الفصل العنصري المعروفة باسم «الخطّ الأحمر»، استفادت الطبقة الوسطى العليا وطبقة رجال الأعمال العرب بآثار الحراك الطبقي والرحلات البيضاء والثروة الجديدة. اقترب العرب مِن البياض، الذي عرّفه جيمس بالدوين على أنه «مجاز للسلطة»، بعد انتقالهم من مهاجرين في المدن الداخلية إلى الضواحي المجزأة. تشكيل «السلامة المتصوَّرة» كما تشرحها المصرية ــــ الأميركية مونيكا إسحاق، حوّل وضع هؤلاء مِن كونهم «جماعة مضطهدة» إلى أقلّيات نموذجية. وتوضح أنهم «لا يحاولون هزّ القارب وفقدان وضعهم الاجتماعي الممنوح إليهم من قِبَل أقرانهم البيض».
جادل غرامشي بأن الدول الرأسمالية تحكم بواسطة مزيج من القوّة في المجتمع السياسي، والقبول من خلال المجتمع المدني. في سياق المجتمعات العربية، تحوّلت الشرطة من وجود قوي ووحشي، إلى هيمنة قوّة ناعمة. عبر تشجيع المشاركة العربية في الحكومة المدنية وقوات حفظ النظام، وكذلك مكتب التحقيقات الفيدرالي، عن طريق برامج مثل BRIDGES، ارتفعت نسب المشاركين الذين باتوا يرون أنفسهم شركاء في المجتمع، بخلاف الوقت الذي كتب فيه نبيل أبراهام في «عرب ديترويت» أن النساء سينتظمن في وجه الأعمال الوحشية التي تمارسها الشرطة ضدّ الشباب. قارِنوا هذا بالثالث والرابع من الشهر الجاري، حين احتدمت التظاهرات في ديترويت، وخرجت تظاهرة مروّضة في ديربورن، حيث رعت الشرطة ما يقرب من 150 متظاهراً للانتهاء من صورة لبعض الشرطيين يركعون معاً في رسم مرئي لظاهرة تعرف باسم «كوباغندا».
في أعقاب إطلاق النار في أواخر عام 2015 على رجل أسود يدعى كيفين ماثيوز في ديربورن، بات شعار «Blue Lives Matte» صورة شخصية لكثير من العرب على صفحاتهم الشخصية في «فايسبوك»، وهو رمز مؤيّد للشرطة يصوِّر علماً أميركياً بالأبيض والأسود، يتوسّطه خطّ أزرق. بحلول العام التالي، تمَّت تبرئة الضباط المسؤولين مِن تهم إطلاق النار.
لسوء الحظ أيضاً، كانت برامج مراقبة الشرطة على مستوى الدولة موجودة في جميع مجالات منظمات المجتمع المدني المحلية العربية والمسلمة. في السنوات الأخيرة، قدم برنامج مراقبة الشرطة بعنوان «مكافحة التطرّف العنيف»، والذي يهدف إلى مراقبة المجتمعات العربية والمسلمة، مِنحاً للعديد من المنظمات العربية والمسلمة، مثل «مجلس التراث اللبناني الأميركي» السابق في ديربورن، و«مجلس المنظمات الإسلامية في شيكاغو الكبرى».
في كل من «الوقاية» والآن في مجال «الصحة العامة»، يسمح «نموذج التدخُّل» التابع لقسم شرطة مدينة ديربورن لأيّ شخص «بإبلاغ الشرطة» عن سلوك أيّ فردٍ من أفراد المجتمع. يسلّط هذا الضوء على العلاقات القائمة على كسب المعاملات بدلاً من التغيير النوعي، والمواقف التي ميّزت العرب الذين يوالون هياكل السلطة، كآلية دفاع عن العرب الآخرين الذين التزموا بالنضالات المشتركة حين اعترفوا بسمات القمع في أميركا وخارجها. مع ذلك، فإن الغالبية ما زالت تميل إلى العدالة، باعتبارها «بقعاً عمياء من الجهل»، كما تؤكد إسراء، وهي عاملة في المجتمع المحلي في ديربورن. وتقول: «المزاج نشيط، والمزاج ثوري».