لم يعد خافياً على أحد أن الحكومة الألمانية، عندما اتخذت قرارها بحظر حزب الله وتصنيفه منظمة إرهابية، استندت إلى معطيات قدّمها جهاز «الموساد» الإسرائيلي. صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» نسبت إلى مصدر في الجهاز أن «هذا القرار نتيجة لأشهر من العمل مع جميع الجهات المعنية في ألمانيا. طلب من مسؤولي الأجهزة تقديم أدلة حسية وإثباتات قانونية تربط المنظمة بجملة من الأنشطة الإرهابية، وهذا ما فعلناه». وحرص المصدر إياه على التذكير بأن «برونو كاهل، رئيس الاستخبارات الألمانية (BND)، صديق مقرّب من الموساد». لذلك، رأى البعض أن هذا القرار، وما تلاه من دهم واعتقالات، قطيعة مع السياسة التي اعتمدتها ألمانيا منذ ثلاثة عقود تقريباً حيال الحزب، وتبنّ كامل للموقف الإسرائيلي ــ الأميركي تجاهه. صحة هذا التقييم لا تتنافى مع حقيقة أن القرار أتى بعد سلسلة من المواقف والقرارات الألمانية تنمّ جميعها عن انحياز متعاظم إلى إسرائيل، هو جزء من استدارة فعلية في السياسة الخارجية لهذا البلد. فمن الدعم الكامل للموقف الإسرائيلي، على غرار هنغاريا وتشيكيا، حول عدم امتلاك «المحكمة الجنائية الدولية» صلاحيات تخوّلها التحقيق في جرائم حرب في الضفة وغزة بحجة أن فلسطين ليست دولة إلى الآن، إلى تصويت البرلمان على قرار يتهم «حركة مقاطعة إسرائيل» باللّاسامية ويمنع تمويل أي جهة تدعمها، مروراً بتصريحات وزير الخارجية هايكو ماس، الذي أكد «وقوف ألمانيا أبداً إلى جانب إسرائيل»، وانتهاءً بهجوم مفوض الحكومة الألمانية لمكافحة السامية، فيليكس كلاين، على المفكر الأفريقي المعروف عالمياً أشيل مبامبي، ونعته باللّاسامي لأنه قارن، في كتاب صدر له سنة 2016، بين سياسة إسرائيل وتلك التي اتبعها نظام الأبارتهيد، نجد أنفسنا أمام جملة من المؤشرات المهمة التي تشي بأسرلة متزايدة للمقاربة الألمانية للصراع العربي ــ الصهيوني وما يتصل به.
هذه المقاربة، التي تندرج في إطار رؤية استراتيجية أشمل لتفكّك المنظومة الدولية السابقة وما ينجم عنها من فوضى واضطراب، وضرورة تعزيز التحالف بين أطراف المعسكر الغربي، وإسرائيل من أهمها، ضد «الآخرين» غير الغربيين، هي التي تفسر جميع المواقف والقرارات المذكورة وليست «عقدة الذنب» تجاه اليهود وغيرها من الحجج الفارغة التي يكثر ذكرها من يبحث دوماً عن مبرّرات للألمان، ولغيرهم من الأوروبيين، ويدعونا للحوار معهم لعلنا ننجح في معالجتهم نفسياً بدلاً من اتخاذ الموقف المناسب من مشاركتهم في الحرب علينا!

«عقدة الذنب» والانحياز إلى إسرائيل
لم تكن «عقدة الذنب» المحفّز الأول لسياسة الانحياز إلى إسرائيل، عبر دفع التعويضات لها والتعاون معها عسكرياً واقتصادياً وعلمياً، التي اعتمدتها النخب الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية. ربما كان لهذه العقدة تأثير في مواقف المواطنين لكنها قطعاً لم تكن الاعتبار الأول الذي يتحكّم بخيارات النخب. مؤسس هذه السياسة، المستشار كونراد اديناور، الذي وقّع مع رئيس الوزراء الصهيوني آنذاك، دايفيد بن غوريون، اتفاقية التعويضات سنة 1952، قال لاحقاً إن «التعويض عن الجرائم ضد اليهود كان لا بد منه لنستعيد موقعنا الدولي... حتى اليوم، يجب عدم الاستهانة بنفوذ اليهود، خاصة في الولايات المتحدة». موقف مطابق صدر عن رولف بولد، أول سفير لألمانيا الفدرالية في إسرائيل وجنرال سابق في الجيش النازي، الذي جزم أن «نفوذ إسرائيل واليهود حاسم في المراكز العالمية حيث يصنع الرأي العام، وألمانيا لا تستطيع التوقف عن دعم إسرائيل حتى لا يطلق اليهود الكلاب من القدس إلى لندن مروراً بنيويورك».
لم تكن «عقدة الذنب» المحفّز الأول لسياسة الانحياز إلى إسرائيل


هذه المعطيات التاريخية الأساسية والكثير من غيرها يوردها دانييل مارويكي، أستاذ السياسة والدراسات الدولية الألماني في جامعة «سواس» البريطانية، في كتابه المهم «ألمانيا وإسرائيل: تبييض الماضي وبناء الدولة»، الصادر هذه السنة عن دار «هورست». وفقاً لمارويكي، هدف الدعم العسكري والاقتصادي الألماني الحيوي لإسرائيل لتبييض صفحة هذه النخب، وبعضها كان على صلة قريبة أو بعيدة بالنظام النازي، ولتأكيد اندراجها في الإجماع الاستراتيجي الغربي بقيادة الولايات المتحدة. مثل هذا الاندراج كان الممر الإجباري الذي لا بديل عنه لقبول عودة ألمانيا إلى الحلبة السياسية لدى الدول الأوروبية بعدما فعلته خلال الحرب العالمية الثانية، ولدى الولايات المتحدة بالطبع. بدأ التعاون العسكري الألماني ــ الإسرائيلي خلال عدوان السويس على مصر، واستمر طوال الستينيات لتصير برلين المصدر الأول للتسليح للجيش الإسرائيلي، فحصل منها على المدفعية الثقيلة والطائرات والطوافات والسفن والغواصات. كان لهذا التسليح دور حاسم في الانتصار الإسرائيلي في عدوان حزيران 1967.
يكشف مارويكي أيضاً أن الولايات المتحدة في تلك المدة أرسلت السلاح سراً إلى إسرائيل عبر ألمانيا حتى لا يؤثر ذلك سلباً في علاقاتها مع الدول العربية. وعلى رغم التحولات التي طرأت منذ السبعينيات على الموقف الرسمي الألماني، انسجاماً مع الموقف الأوروبي آنذاك، ونقده سياسة الاحتلال والاستيطان ومطالبته بتسوية على قاعدة القرارات الدولية تسمح بدولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، فإن التعاون العسكري لم يتوقف عن التطور، وآخر ثمراته غواصات «دولفين» وبناء الطرفين نظام إنذار نووي مبكر. وألمانيا المستثمر الخارجي الثالث أهمية في إسرائيل، وهي شريكها التجاري الأوروبي الأول، والشريك التجاري الثاني لها بعد الولايات المتحدة، في حين أن إسرائيل هي الشريك الرابع كبراً لألمانيا في المنطقة.

الحليف الموثوق
تظهر المواقف الصادرة أخيراً عن قطاع واسع من النخب الألمانية، بما فيها «اليسارية»، عن انزياح عن النهج الذي ساد خلال العقود الثلاثة الأخيرة في السياسة الخارجية تجاه قضايا المنطقة. فهايكو ماس، وزير الخارجية الذي نال إعجاباً كبيراً عندما انتقد بشدة سياسة إدارة دونالد ترامب ودعا إلى استقلال أوروبا على مستوى السياسة الدفاعية، أعلن مباشرة بعد تسلّمه منصبه سنة 2018 أنه دخل إلى عالم السياسة «بسبب أوشفيتز»، وكانت إسرائيل من أول البلدان التي يزورها ليبلغ رئيس وزرائها بوقوف دولته «الأبدي» معها. يشير مارويك في مقالة على موقع «لوموند ديبلوماتيك» نُشرت هذا الشهر إلى الاحتفال الذي تم في البرلمان الألماني بالذكرى السبعين لإنشاء الكيان الصهيوني، حيث تبارت الأحزاب في استعراض تأييدها له. فهذا مارتن شولتس، من الحزب الاجتماعي ــ الديمقراطي يقول: «عندما نحمي إسرائيل، نحمي أنفسنا»، لتضيف من بعده كاترين غورينغ ــ ايكارد، المتحدثة باسم حزب الخضر، أن «حق إسرائيل بالوجود يوازي حقنا».
لا يمكن تفسير هذه المواقف فقط بالرغبة في مجاراة الولايات المتحدة، فغالبية هذه الأحزاب تعارض سياسات ترامب وتعتبرها تهديداً لمصالح بلادها. لكنها ترى نفسها جزءاً لا يتجزّأ من المعسكر الغربي الذي يعاني من الانقسامات نتيجة سياسة ترامب الحمقاء، وتنظر إلى إسرائيل بصفتها الحليف الموثوق والقطب التكنولوجي والاقتصادي الذي ينبغي توثيق الصلات معه في مواجهة المتغيّرات العالمية التي تهدد هيمنة الغرب. يتماهى هؤلاء مع إسرائيل كما يفعل قسم معتبر من النخب الغربية، وباتوا يعلنون بصوت جهوري ما كان آباؤهم يسرّون به بصوت منخفض.