«منذ أن انتُخب دونالد ترامب، فإنّ عقرب الدقائق يقترب أكثر فأكثر من ساعة منتصف الليل. العام الماضي، كانت عقارب الساعة تشير إلى ابتعادنا عن منتصف الليل بدقيقتين. هذه السنة، استغنى المحلّلون عن الدقائق، وبدأوا قياس قُربنا من انتهاء العالم بالثواني، وقالوا إننا على بعد 100 ثانية من منتصف الليل. وهذه أقرب نقطة وصلنا إليها في تاريخنا». الكلام للمفكر والكاتب الأميركي نعوم تشومسكي، أحد أبرز نُقّاد «الليبرالية المتوحشة»، والسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية. في مقابلته الأخيرة مع قناة «DiEM 25» على «يوتيوب»، يُخبر تشومسكي أنّ التعامل مع وباء «كورونا» يجب أن يُشبه «التعبئة بعد الحرب العالمية الثانية التي ذهب ضحيتها عدد من القتلى أكبر بكثير ممّا يتمّ الحديث عنه اليوم، وكانت ناجحة وضاعفت الإنتاج الصناعي الأميركي أكثر بأربع مرات وأنهت الكساد الاقتصادي». يقول إنّ الولايات المتحدة، بالمقوّمات التي تملكها، لديها الموارد لـ«التغلّب على نتائج الأزمة المباشرة». صحيح أنّه «لا إجراءات بحجم إجراءات ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنّنا نحتاج إلى تلك العقلية (التعبئة الاجتماعية) كي نحاول أن نتغلب على الأزمة الشديدة، القصيرة المدى في عالم متحضّر، الدولة الغنية تساعد من هُم بحاجة إلى المساعدة، بدلاً من أن تقوم بخنقهم، وهو ما تقوم به الولايات المتحدة».
يصف تشومسكي «كورونا» بالوباء «الخطير للغاية ولا يمكننا أن نستهين به، ولكن علينا أن نعي أنه جزء صغير من أزمات الطبيعة المقبلة، التي قد لا تُعطّل إلا أنها ستهدّد مصير الجنس البشري، وقد ستندلع في المستقبل غير البعيد». هي إذاً مشاكل عدّة يجب التعامل معها، كما يُخبرنا الرجل التسعيني.
ماذا عن دور «رأس المال» في أزمة «كورونا»؟
«الجانب المُضيء، أنّ الوباء قد يدفع الناس إلى التفكير في نوع العالم الذي نُريده»، يقول تشومسكي، مُتسائلاً: «هل نُريد عالماً يؤدّي إلى هذا النوع من الأزمات؟». يستوجب ذلك العودة إلى الأصل: «لماذا توجد أزمة كورونا؟». جوابه أنّها «تعبير عن فشل هائل لاقتصاد السوق، ويعود سببه إلى جوهر هذا الاقتصاد، الذي دفعته النيوليبرالية الوحشية إلى زيادة حدة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية العميقة». قبل فترة طويلة، «كان معروفاً احتمال تفشّي الأوبئة، وكان متوقّعاً أن يكون الوباء التالي من نوع كورونا، مع تعديلات طفيفة على وباء «سارس» الذي انتشر قبل 15 عاماً. في ذلك الزمن، تمّ التغلب عليه. الفيروسات تم التعرف إليها، وجرى ترتيب تسلسلها، واللقاحات كانت متاحة». لماذا لم تعمل المختبرات حينها على تطوير الحماية من الأوبئة المحتملة؟ «إشارات السوق كانت خاطئة. سلمنا مصائرنا لشركات الأدوية، وهي ديكتاتوريات اسمها المؤسسات الخاصة، والتي لا تخضع للمساءلة. في هذه الحالة، نتحدّث عن كبريات شركات الأدوية (Big Pharma). بالنسبة إلى هذه الشركات، صناعة كريمات جديدة للجسم أكثر ربحية من إيجاد لقاحات تحمي الجنس البشري من الزوال». يصف تشومسكي الوضع الحالي بأنّنا «نعيش تحت وطأة إيديولوجية كان يُجسّدها رونالد ريغان. كان يقرأ خطابات يتسلّمها من أسياده أصحاب الشركات الكبرى، ويقول مع ابتساماته المشرقة، إنّ الحكومة هي المشكلة دعونا نتخلّص منها، ما يعني تسليم القرارات إلى ديكتاتورية خاصة لا تخضع للمساءلة». على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، «كانت (مارغريت) تاتشر (رئيسة وزراء بريطانيا الراحلة) تُعلّمنا أنه لا يوجد شيء اسمه مجتمع، بل يوجد فقط أفراد، يُرمون في السوق، ليحاولوا البقاء على قيد الحياة». العالم يعاني منذ سنوات، «وقد وصل إلى حدّ أن الأمور التي من الممكن إنجازها بتدخّل حكومي مباشر يُمنع القيام بها لأسباب إيديولوجية».
الولايات المتّحدة هي أسوأ نموذج على الإطلاق في مكافحة «كورونا»


يتحدّث تشومسكي عن طريقة مكافحة الولايات المتحدة لـ«كورونا»، وهي «أسوأ نموذج على الإطلاق، يُقاد اليوم من قبل شخص (دونالد ترامب) عدائي مهووس. قال بداية إنّه لا وجود لأيّ أزمة وكورونا مثله مثل الرشح، ثم قال إنّها أزمة مروّعة، ثم قال إنّه كان يعلم بالأمر منذ البداية، ثم قال إنّه علينا أن نعود إلى العمل لأن «عليَّ أن أفوز في الانتخابات»». بالنسبة إلى تشومسكي أن يكون مثل ترامب من يقود العالم «هو أمر صادم». ولكنّ الفكرة أن «الأزمة بدأت بفشل هائل من قِبل اقتصاد السوق، ما يشير إلى مشاكل أساسية في النظام الاقتصادي والاجتماعي، والذي يزداد سوءاً عبر وباء النيوليبرالية. واستمرار كورونا هو نتيجة انهيار المؤسسات التي كان يمكنها أن تتعامل معه لو كانت تلعب دورها».
بغياب دواء، حتى الساعة، فعّال لعلاج «كورونا»، بات خيار الدول شبه الوحيد هو العزل. «ما علينا أن نتذكّره هو أننا شهدنا في السنوات القليلة الماضية نوعاً من أنواع العزلة الاجتماعية المؤذية جداً»، يقول تشومسكي، شارحاً كيف أنّه «أدخل إلى مطعم ماكدونالدز، على سبيل المثال، وأنظر إلى عدد من المراهقين يتناولون الهمبرغر. ما تلاحظه هو حصول حوارين متوازيين، حوار سطحي بينهم، وحوار يُجريه كلّ واحد على حدة على هاتفه الذكي مع شخص يتحدث معه عن بعد». هذه الظاهرة «عزلت الناس عن بعضهم البعض بطريقة مذهلة. فكرة تاتشر عن عدم وجود مجتمع تبرز في أنّ الاستخدام الخاطئ لوسائل التواصل جعل من الناس كائنات معزولة بعضها عن بعض، خصوصاً الشباب. وهناك جامعات أميركية تكتب على رصيفها «انظر إلى فوق»، لأنّ كل الشباب يمشون في الشارع ملتصقين بشاشات هواتفهم. وهذا نوع من العزل الاجتماعي (المقرر ذاتياً)».
ما الذي نتعلمه إذاً من أزمة «كورونا»؟
بالنسبة إلى تشومسكي؟ «قد نعتبر أنّ الأزمة تنبيه ودرس لنا في التعامل مع أزماتنا اليوم لمنعها من الانفجار والتفكير في جذورها، وكيف أنّها ستقودنا إلى المزيد من الأزمات الأشدّ سوءاً».