لا يمكن النظر إلى أزمة الاتحاد الأوروبي المتصاعدة بفعل انتشار وباء «كورونا»، باعتبارها توتّراً عابراً للعلاقات بين دوله، يمكن تجاوزه متى تمّ القضاء على الفيروس. في العصر «ما بعد الكوروني»، إن صحّ التعبير، ستقف بلدان التكتُّل أمام نوع مختلف مِن التحديات. تحدياتٌ مِن شأنها أن تَهزّ دعائم الاتحاد ووحدته، وسط غياب مظاهر التضامن بين دوله وانكفائها ضمن حدودها الداخلية، وتَجلّي حدود السياسات النيوليبرالية. وربّما يتبيّن أن الاتحاد الذي استطاع تجاوز تداعيات «بريكست» وأزمة اللاجئين والأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، بات أكثر هشاشة وضعفاً مِن ذي قبل، بعدما أعاد اختبار انتشار الوباء الاعتبار إلى الدولة القومية: الملاذ الأخير للشعوب في وقت الأزمات الكبرى.شكّلت إيطاليا الاختبار الأصعب في هذا السياق؛ الاستجابة البطيئة، معطوفةً على غياب الوحدة بين دول تكتُّل اليورو، بدّدا الآمال بانحسار الوباء قريباً، وجعلا من أوروبا بؤرة جديدة للأزمة. أقرّت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لايين، متأخرةً، بأن المسؤولين السياسيين «قلّلوا من أهمية» حجم الخطر الذي يشكّله «كورونا»، بينما أطلق البنك المركزي الأوروبي، متأخراً أيضاً، خطة «طوارئ» بقيمة 750 مليار يورو لشراء الديون العامة والخاصة، في محاولة لاحتواء التداعيات الاقتصادية للوباء. خطةٌ جاءت بعدما تصرّفت مديرة «المركزي»، كريستين لاغارد، استناداً إلى أن الجائحة الحالية مختلفة كونها أزمة صحة عامة، وليست أزمة سياسية أو مالية.

أمثلة «اللاوحدة»
كان على إيطاليا اختيار مَن يبقى على قيد الحياة، نظراً إلى نفاد الإمدادات: تمّ توجيه الأطباء بهدف ضمان العلاج لأولئك الذين لديهم فرص أعلى للنجاة. توسّلت السلطات الصحية الإيطالية أصدقاء البلاد وحلفاءها للحصول على إمدادات الطوارئ. وصلت المساعدات من شنغهاي: فريق طبي و31 طناً من الإمدادات. عزّزت لفتة بكين غياباً ملحوظاً في الدعم المُتوقَّع مِن أوروبا، تجلّى بعدما أشارت لاغارد إلى أن وظيفتها لم تعد إبقاء إيطاليا في منطقة اليورو. جلُّ ما فعله هذا الرفض، هو تغذية استياء. بيد أن هناك تصوّراً ترسّخت جذوره على مدى عقد من الزمن، مِن اتّحاد نقدي يفتقر إلى التضامن الجماعي ويعيق النمو، بينما كانت إيطاليا تواجه تدفّقات المهاجرين، ما أدّى إلى صعود القوميين المتشكّكين في أوروبا، أمثال اليميني المتطرّف ماتيو سالفيني.
صربيا التي تخوض منذ سنوات مفاوضات للانضمام إلى الاتحاد لم تكن أفضل حالاً. بنبرةٍ غاضبة، قال رئيسها، ألكسندر فوتشيتش، إن «التضامن العالمي ليس موجوداً»، واصفاً التضامن الأوروبي بـ«القصة الخرافية». أمله الوحيد معلّق على الصين، بعدما قرّر الاتحاد منع بلاده من استيراد المعدات الطبية بحجّة عدم توفّر ما يكفي لدوله: «هذا القرار اتُّخذ مِن قِبَل أشخاص كانوا يرسلون إلينا الأوامر بألّا نشتري البضائع من الصين… هؤلاء كانوا يريدون منّا أن نعدّل شروط مناقصاتنا الخارجية، بحيث لا يكون السعر المنخفض هو الأولوية، لنشتري بضائعهم ذات الجودة الأعلى».

تكاليف أخرى
إلى التكلفة مِن حيث الأرواح والصحة العامة، أحدث «كورونا» صدمة اقتصادية على نطاقٍ يمكن أن يتجاوز بسهولة أزمة عام 2008. وفي حين أن الركود العظيم، نتجَ مِن صدمة مالية تردّد صداها عبر الاقتصادات الأميركية والأوروبية، فإن العالم كله يواجه، راهناً، تباطؤاً هائلاً في جميع قطاعاته الاقتصادية. اتّباع سياسة «المسافة الاجتماعية» أو مسافة الأمان، يعني نشاطاً اقتصادياً أقلّ: في الأسابيع والأشهر المقبلة، سيعمل الناس أقلّ وسيستثمرون أقل وسينفقون أقلّ، ما سيؤدّي، حتماً، إلى تدهور الموازنات العامة والأعمال التجارية المربحة - ما لم يكن هناك التزام واضح مِن قِبَل السلطات بتحقيق الاستقرار الاقتصادي.
عانت إيطاليا من غياب الدعم الأوروبي وكان عليها «اختيار» مَن يبقى على قيد الحياة


لكن بخلاف الاحتياطي الفدرالي في الولايات المتحدة وبنك إنكلترا، تجنّب واضعو سياسات البنك المركزي الأوروبي خفض معدّل الفائدة بشكل كبير. وفقاً لبيان لاغارد الأسبوع الماضي، «لا توجد علامات مادية على وجود توتّرات في أسواق المال أو نقص السيولة». لذلك، فإن الردّ يجب أن يكون «مالياً في الأساس»، وليس بالاعتماد على المصارف المركزية. في ظلّ الأزمة الحالية، كانت نسبة الديون الإيطالية إلى الناتج المحلي الإجمالي 134%، واقتربت الإسبانية والفرنسية مِن نسبة 100%. وفي ظلّ فروقات الأسعار على السندات، يبدو التحفيز المالي الكبير غير وارد. قد تكون اليونان، مثلاً، شهدت حالات قليلة نسبياً من الإصابات بفيروس «كورونا»، ومع ذلك، فقد ارتفع سعر السندات العشرية الخاصة بها بأكثر من 50 نقطة أساس في الأسبوع الماضي، إذ لا يكفي مجرد «الاعتماد على ألمانيا»، كما قال وزير المالية الألماني، أولاف شولتز! أساءت لاغارد، قبل طرحها خطة «الطوارئ» مرغمةً، قراءة سياسات اللحظة الراهنة. بعد انتهاء المفاوضات الشاقّة في شأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أصبحت الحكمة التقليدية تقول بأن الأوروبيين قد شفوا مِن أي رغبة في مغادرة الاتحاد. هذا كان صحيحاً قبل بضعة أسابيع، إلا أنه لم يعد من الممكن اعتباره أمراً مسلّماً به في أوقات غير عادية. وعليه، فإن التكلفة البشرية الحقيقية للوباء (أكثر من 3000 شخص ماتوا في إيطاليا وحدها) إلى جانب القلق الشعبي والشعور بأن المؤسسات الأوروبية غير معنية، يمكن أن تساهم بسهولة في الاندفاع بعيداً مِن المركز. وإذا كان هناك درس واحد يمكن استخلاصه مِن الكساد الكبير، وفق موقع «بوليتيكو» الأميركي، فهو أنه عندما تفشل القيادة الدولية، يتم استبدالها بالسلوك المدمّر غير التعاوني للحكومات الوطنية؛ عندما فشلت الولايات المتحدة في توفير السيولة للنظام المالي العالمي وفرضت تعرفات «سموت هاولي» بدلاً من إبقاء أسواقها مفتوحة، نشأت تخفيضات تنافسية ورفع للرسوم الجمركية.