بين ناريندرا مودي وضيفه دونالد ترامب تشابه كبير، لا سيما في العداء لـ«العولمة»، والخطّ القومي المتشدّد الذي يتماشى مع عنصرية متأصلة ضدّ الأقليات في بلدَيهما، بخاصة المسلمة منها. ومع ذلك، تمثل تلك المشتركات في حدّ ذاتها وجهاً من أوجه التصادم بين رئيس يرفع لواء «أميركا أولاً»، ورئيس وزراء شعاره «صنع في الهند». وفيما قد يبدو مودي شديد الحرص على طقوس حسن الضيافة للوافد الأميركي، تطول قائمة المطالب والمطالب «المضادّة» على جدول أعمال الزعيمين، بدءاً من ملف النزاع الهندي - الباكستاني، مروراً بعلاقة نيودلهي بكلّ من بكين وطهران، وليس انتهاءً بالأزمة الأفغانية ربطاً بملف «الحرب على الإرهاب».بعد نفض غبار إرث زاخر بالاشتراكية، وتوجّه مغالٍ في التحفّظ في السياسة الخارجية للهند، من ناحية، وتحوّل واشنطن عن «المجابهة النووية» مع الهند في تسعينيات القرن الماضي، مضت العلاقات الأميركية - الهندية في الأعوام الأخيرة في اتجاه تصاعدي، من زيارة بيل كلينتون التاريخية وتوثيق أواصر العلاقة النووية في عهد جورج بوش، وصولاً إلى النهوض بالعلاقة مع العملاق الآسيوي نحو آفاق أرحب، لتشمل نواحي التجارة والتكنولوجيا. اليوم، يحلّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضيفاً على رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، لمناقشة ملفات ثنائية، بعضها ذو طبيعة خلافية، كملف التجارة والهجرة، وأخرى ذات صلة بقضايا دولية وإقليمية ساخنة.

زمن التفاوض مع طالبان
يدخل الموقف من أزمة العلاقات بين باكستان والهند ضمن المحدّدات الأساسية لتعريف مصالح نيودلهي في علاقاتها الخارجية. ومع تفجّر الوضع في كشمير، وعودة الإقليم المتنازَع عليه تاريخياً بين الجارين النوويين إلى دائرة الضوء، على خلفية إلغاء السلطات الهندية للمادة 370 من دستور البلاد، بدا لافتاً اكتفاء الإدارة الأميركية بدور المتفرّج حيال مستجدات الأزمة في كشمير، كشكل من أشكال الانحياز للموقف الهندي. محاباة الهند من جانب واشنطن تتعلّق أساساً بتصوّرات الأخيرة بشأن مشهد التوازن الاستراتيجي في آسيا، وهي تصوّرات تحمل في الوقت الراهن تعبيراً أميركياً واضحاً عن الانزعاج من علاقات باكستان المتنامية مع الصين، وتعكس رغبة في استخدام الروابط الهندية - الأميركية كورقة ضغط على حكومة إسلام آباد، بغية تثميرها في تسهيل المفاوضات الجارية بين الولايات المتحدة وحركة «طالبان» الأفغانية حيال مستقبل الوضع في أفغانستان. وربما تأتي هذه المحاباة أيضاً من أجل إغراء حكومة مودي لمنح «الدبلوماسية التجارية» لترامب المزيد من النقاط، بعد موجة خلافات مع نيودلهي، والتوصل إلى تفاهمات تجارية على غرار تلك التي توصّل إليها ترامب مع نظيره الصيني في مطلع العام الجاري.

هل تبتعد الهند عن إيران؟
انطلاقاً من أن مسار نيودلهي المنشود نحو زعامة آسيوية يرتكز بصورة أساسية على إشباع نهم الاقتصاد الهندي لموارد الطاقة، تبرز معضلة أخرى في صلب العلاقة بين واشنطن ونيودلهي، وهي ترتبط جوهرياً بهامش ضيّق باتت ترسمه إدارة ترامب للدول في تعاملاتها مع إيران، التي تعدّ أبرز مورّدي النفط للهند. ولطالما كانت الهند داعماً أساسياً للبرنامج النووي السلمي الإيراني، لاعتبارات عديدة راسخة في السياسة الخارجية الهندية المؤيدة تاريخياً لحقوق الشعوب في التنمية والتحرّر. وفي الوقت عينه، أيّدت سلسلة من قرارات العقوبات الدولية على طهران بدءاً من العام 2006، وذلك يرجع إلى ضغوط غربية على نيودلهي، من جهة، ولأن الأخيرة لن تكون مسرورة بدخول دولة آسيوية جديدة إلى النادي النووي العسكري، من جهة ثانية.
ومع تولّي مودي السلطة في العام 2015، تبدو الهند أكثر تردّداً في تحدّي سياسة «الضغوط القصوى» من جانب الإدارة الأميركية حيال إيران، خصوصاً أن أوساط النخب الهندية لا تُخفِ انزعاجها من مناخ من «عدم الثقة» بدأ يسود بين حكومة نيودلهي ونظيرتها الإيرانية على خلفية الخلاف على تفسير بعض بنود الاتفاقات الموقع عليها، كالاتفاقية الموقعة عام 2005 لتصدير الغاز الإيراني لمدة 25 عاماً، فضلاً عن فشل الطرفين في الإسراع بتنفيذ مشروع أنبوب الغاز باتجاه الأراضي الهندية، ذلك أن مشروع الأنبوب المقترَح إيرانياً يمرّ عبر الأراضي الباكستانية، الأمر الذي أثار حفيظة الهنود الذين يفضّلون تمريره بحراً، لأسباب تتعلّق بالأمن القومي لبلادهم.
لم تبخل طهران على نيودلهي، إذ تعاقد الطرفان على مشاريع استثمارية في ميناء تشابهار


وفي هذا السياق، صرّح دبلوماسي هندي قبل أشهر بأن بلاده أعدّت «خطة قوية» للحصول على كميات مناسبة من النفط الخام من مورّدين آخرين غير طهران. ما سبق يكشف عن تقاطع أميركي - سعودي على هذا الصعيد، لا سيما أن زيارة مودي الأخيرة للرياض، والتهليل الذي عكسته الصحافة السعودية من خلال إسهابها في التقييم «الاستراتيجي» للعلاقة مع الهند، الغريم التقليدي للحليف الباكستاني القديم، أعطيا صورة واضحة في شأن ملامح التحالفات الإقليمية الجديدة في جنوب آسيا وغربها. فالزعيم الهندي تَلقّف باهتمام بالغ إعلان ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، عن تطلّعه إلى فرص استثمارية في الهند بقيمة تصل إلى 100 مليار دولار، وهو ما تمخّض عن شراء الرياض 20 في المئة من أسهم إحدى أكبر الشركات الهندية العاملة في قطاع النفط بقيمة 15 مليار دولار، إلى جانب وجود خطط بين جهات استثمارية سعودية وإماراتية، بالتعاون مع شركاء في قطاع الأعمال الهندي، من أجل بناء مصفاة نفط على الساحل الغربي للبلاد بقيمة تناهز 42 مليار دولار.
ولعلّ الاستضافة الحارة لإردوغان في إسلام آباد قبل أيام، من جانب رئيس الوزراء عمران خان، وشكواه من عدم إدانة السلوك الهندي في ملف كشمير داخل أروقة قمة «منظمة التعاون الإسلامي» في العاصمة الماليزية كوالالمبور أواخر كانون الأول / ديسمبر، بسبب ضغوط سعودية، معطوفةً على انفتاح قيادة الجيش الباكستاني على التعاون مع كلّ من موسكو وطهران، قدّمت إضافات لا تقبل الشك حيال مشهد إقليمي متغيّر بوتيرة متسارعة، كما أنها جلّت بوادر لتصدّع الحلف السعودي - الباكستاني لمصلحة حكومة مودي الذي حلّ ضيفاً على السعوديين للمرة الخامسة منذ 2016. بيد أن صحيفة «غلف نيوز» الإماراتية نقلت عن دبلوماسي إماراتي تأكيده أن قرار الهند إلغاء الحكم الذاتي لمنطقة جامو وكشمير جاء بدعم وتأييد من محور أبو ظبي - الرياض. وفي ضوء ما سبق، يمكن القول إن التفاعل بين فكرة «الخوف» من سياسات واشنطن، والطمع في استثمارات دول الخليج، بخاصة السعودية، يولّد الابتعاد الهندي عن طهران.
حتى الآن، تُمسك الهند العصى من الوسط، ذلك أنها واظبت على شراء النفط الإيراني، وإن بوتيرة أقل، من دون الوصول إلى تحدّي إرادة الولايات المتحدة. بدورها، لم تبخل طهران على شريكتها الآسيوية بشيء من «كعكة الاستثمار» في السوق الإيرانية، إذ تعاقد الطرفان على مشاريع استثمارية في ميناء تشابهار، وهو ميناء بالغ الحيوية بالنسبة إلى الهند، باعتباره يبعد 72 كلم عن ميناء غوادار الباكستاني، الذي تستثمر فيه الصين، الخصم الإقليمي الأكبر لنيودلهي.
وفي ظلّ تأجّج الصراع الأميركي - الإيراني في الخليج، يرجّح مراقبون أن تسفر زيارة ترامب، في حال إصراره على أجندته ضدّ طهران لتصفير صادراتها النفطية، عن إضافة عنصر تأزيمي جديد للعلاقات بين الهند وإيران.

صراع بكين ونيودلهي على المحيط الهندي
لدى واشنطن تطلّعات إلى بروز دور هندي في تشكيل تحالف دولي واسع لاحتواء الدور الإقليمي البارز للصين، ونفوذها الدولي المتزايد، وهو أمر تتوجّس منه نيودلهي، بسبب انعكاساته المحتملة على مجمل الوضع الآسيوي، لا سيما في جوارها القريب والمباشر، حيث تلعب بكين دور الظهير الإقليمي لباكستان.
ومع أن تخندق كلّ من بكين ونيودلهي تحت إطار «منظمة شنغهاي للتعاون»، وغيرها من مظلّات التعاون الإقليمي، يُعدّ أحد أبرز تجلّيات التوافق بينهما، إلا أن واشنطن تولي مساحة الاختلاف الصيني الهندي، لا سيما الأمني والاستراتيجي، أهمية أكبر، بحيث يمكن التعويل عليها في خدمة استراتيجية «الاستدارة نحو آسيا»، في خضمّ سباق صيني - هندي محموم للسيطرة على المحيط الهندي. وللدلالة على الأهمية الاستراتيجية لثالث أكبر محيطات العالم، تجدر الإشارة إلى أن نصف حركة التجارة البحرية الدولية تمرّ عبر ذلك المحيط، علماً بأن ما نسبته 20 في المئة منها كناية عن صادرات وواردات نفطية. وبالنظر إلى انشغال الصينيين بتأمين أمنهم الطاقوي، دأبت الصين في الأعوام الماضية على تعزيز «أصولها الاستراتيجية» في تلك المنطقة، والتي تشتمل الدول المشاطئة لها على 65 في المئة من احتياطيات النفط في العالم، و35 في المئة من احتياطيات الغاز.
وكمؤشر ينذر بتداعيات كبرى، صدرت وثيقة عن الجيش الصيني تنصّ على أنه «لم يعد مقبولاً لدينا بعد اليوم اعتبار أن (منطقة) المحيط الهندي تعود للهنود حصراً... بكين تضع في حسبانها (إمكانية) وقوع صراعات مسلحة في المنطقة» على خلفية هذا الأمر. وهو ما انعكس ريبة في الأوساط السياسية والعسكرية الهندية، واستدعى رداً مقابلاً، عملت بموجبه الهند على انتهاج استراتيجية جديدة في المحيط، حيث ما نسبته 90 في المئة من حركة التجارة الهندية. لذلك، شرعت في توسيع هامش حضورها البحري بعد تهميشه بصورة إرادية لعقود مضت، لحساب تركيز قوتها برّاً، للتصدّي لباكستان غرباً والصين شرقاً. وهي اليوم، إثر تطوير عقيدتها العسكرية البحرية الخاصة بها، والتي تصنف النشاط الصيني على مقربة من سواحلها في خانة «التطويق» و«الحصار»، تهدف إلى تكوين أسطول حربي قوامه 145 سفينة حربية خلال العقد، وثلاث حاملات طائرات. المعركة على المحيطات لخّصها أحد رواد علم الجيوبوليتيك، وهو ألفرد ماهان، حين قال إن «من يُحكم سيطرته على المحيط الهندي يهيمن على آسيا. فالمحيط المذكور يشكل نقطة مفتاحية باتجاه بحار سبع. ففي القرن الواحد والعشرين سوف يتقرر مصير العالم على سطحه».
وفي محاولة لاستشراف جانب من آفاق السياسة الأميركية في المحيط الهندي، حذّر ريتشارد هاس، وهو رئيس «مجلس العلاقات الخارجية»، من مغبة التقارب الأميركي مع باكستان لأسباب تجارية وغير ذلك، مشيداً بدور الهند في المقابل بوصفها «شريكاً» يُعتمد عليه مع الصين، انطلاقاً من الرفض الهندي لمشروع «الحزام والطريق». كما عوّل هاس على الثقل البشري والاقتصادي للدولة الهندية، والذي يمكن أن يضطلع بدور مواز لدور بكين، مشدداً على الحاجة لما اعتبره «إدارة» للأزمات في جنوب آسيا، وليس التوصل إلى حلول لها.
وإزاء هذا المشهد المزدحم، لا يستبعد مراقبون أن ما يشغل بال ترامب تكرار «فنونه الأوكرانية»، بأن يضع في اعتباره إبرام «صفقة ما» مع مودي، بغرض حصد أصوات الأميركيين من أصول هندية، الذين يحظى حضورهم في الواقع الأميركي بأهمية متزايدة سياسياً واقتصادياً.



المصالح الجيوسياسية وحساب الاقتصاد
خلافاً لما سبق، تعجّ الأجندة التجارية لمودي وترامب بتضارب الرؤى، ذلك أن الأخير، المنزعج بشدّة من العجز في الميزان التجاري مع نيودلهي بما يزيد على 27 مليار دولار للعام 2017، كان قد بادر إلى إنهاء «المعاملة التفضيلية» لنيودلهي، التي شهدت نمواً من حوالى 20 مليار في 2000 إلى نحو 126 مليار دولار في 2017. كذلك، عمدت إدارة ترامب إلى فرض قيود على منح التأشيرات لصالح العمالة الهندية الوافدة، إلى جانب زيادة التعرفات الجمركية على واردات الألمنيوم والفولاذ من الهند، كاحتجاج على التدابير الحمائية التي تعتمدها نيودلهي حيال بعض الصادرات الأميركية، كالهواتف المحمولة وقطع غيار السيارات.
لائحة الشكاوى الأميركية تطول لتشمل بعض القوانين الصادرة أخيراً عن الحكومة الهندية، تحت وطأة ضغوط بعض القطاعات الاقتصادية المحلية، وهي قوانين أتاحت فرض بعض القيود التنظيمية والقانونية على عمل المستثمرين الأجانب العاملين في قطاع التكنولوجيا والتسويق الإلكتروني، كشركة «أمازون» الرائجة في السوق الهندية، الأمر الذي كلّف تلك الشركات خسائر فادحة.
بدورها، ردّت الهند بإدراج لائحة من 29 منتَجاً أميركياً على لائحة العقوبات التجارية، إلا أنها عمدت إلى تأجيل تفعيل تلك الخطوة مراراً، وهو أمر عَدّه محللون بمثابة ترقب لحلّ تفاوضي يراهن عليه مودي، في ظل إعلائه من شأن مصالحه الجيوسياسية مع واشنطن على حساب مواصلة فصول «الحرب التجارية».
من منظور البعض، تبدو فرضية جسر هوة الخلافات التجارية مع مودي وترامب لحساب مصالح جيوبوليتيكية مشتركة، قائمة، والأسباب عديدة، على رأسها كبح جماح نفوذ الصين، فيما يرجّح آخرون أن تحاول نيودلهي إنقاذ الموقف بدبلوماسيتها المعتادة، البعيدة عن «النهج الصفري»، من خلال التموضع في منطقة «رمادية» في ما يخص المسائل الخلافية مع الولايات المتحدة.