التهديد الأميركي الجديد، بفرض تعرِفات جمركية إضافية على السيارات المستورَدة من ألمانيا، زاد التوتر بين البلدين، في سياق تعلن فيه برلين نيّتها تعميق علاقاتها التجارية مع الصين. لم يمنع «الهوى الأميركي» الموروث من تاريخ ألمانيا المعاصر، ولا انحياز الأخيرة الاستراتيجي إلى واشنطن والذي كان بمثابة المعطى البنيوي في سياساتها، اتجاهها في السنوات الأخيرة نحو تنويع الشراكات على المستوى الاقتصادي. وقد تَسبّب تطوير علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع روسيا، وبشكل أخصّ مع الصين، بحملة أميركية شرسة عليها. وبعد العقوبات التي اعتُمدت في كانون الأول/ ديسمبر الماضي ضدّ الشركات والحكومات الشريكة في مشروع أنبوب «السيل الشمالي 2»، الذي سيتدفق منه الغاز الروسي إلى ألمانيا، باتت السيارات والآليات المستورَدة من أوروبا تُعتبر خطراً على الأمن القومي الأميركي. هذا الاستنتاج يعني أن حزمة جديدة من الضرائب الجمركية الضارة بالصناعة الألمانية، التي تُصدّر ثلث إنتاجها إلى السوق الأميركي، ستجد طريقها للتطبيق. أوروبا، وبشكل خاص ألمانيا، تواجهان تصميماً حازماً من دونالد ترامب على حماية ما يراه مصالح وطنية أميركية، وعلى تصحيح اختلالات مضرّة بها في العلاقات مع الأولى. المأخذ الأبرز الذي لا ينفكّ الرئيس الأميركي عن تكراره، هو ذلك المتعلّق بالحماية التي تؤمّنها بلاده للأوروبيين عبر حلف «الناتو»، ما سمح لهم بتخفيض كبير لإنفاقهم الدفاعي، والاستثمار المكثّف في قدرتهم التنافسية. وأكثر ما يثير حفيظة واشنطن هو أن برلين لا تُخصّص سوى 1.36% من إنتاجها المحلّي الإجمالي للإنفاق الدفاعي، وأنها على رغم التزامها برفعه ليصل إلى 1.42% سنة 2020 تبقى بعيدة عن الهدف المتّفق عليه بين دول «الناتو» وهو 2%، وتقوم بتعزيز روابطها مع أبرز خصوم الولايات المتحدة بموازاة ذلك. وقد شكّلت زيارة وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، إلى برلين، في 13 شباط/ فبراير الحالي، مناسبة لتناول موضوع تقوية الصلات الاقتصادية والتجارية بين الاتحاد الأوروبي والصين، ضمن توجّه لتوقيع اتفاق استثماري قبل نهاية هذه السنة. لكن التحسّن المستمر في التعاون الصيني - الأوروبي، والتوتر الراهن في العلاقات مع واشنطن، لا يعنيان وجود إرادة أوروبية للاستقلال الاستراتيجي عنها.
تُظهر الأرقام نقاط ضعف النموذج الاقتصادي الألماني الملزَم بالبحث عن أسواق خارجية

أصبحت الصين، منذ سنة 2015، الشريك التجاري الأول لألمانيا، إذ بلغت القيمة الإجمالية للمبادلات بينهما حوالى 200 مليار يورو بحسب «المكتب الفدرالي الألماني للإحصاء». وتمثّل الصين المصدر الأول لواردات ألمانيا بما تُقدّر قيمته الإجمالية السنوية بـ106 مليارات يورو، فيما تُعدّ صادرات الأخيرة إلى الصين الثالثة من حيث قيمتها الإجمالية التي تصل إلى 93.1 مليار يورو. وتُعدّ الصين، بعد الولايات المتحدة وفرنسا، ثالث أهمّ سوق لمنتجات الصناعيين الألمان (سيارات، آلات، منتجات ومواد كيميائية). ويرى المراقبون الأكثر تفاؤلاً أن شبه التوازن التجاري بين الدولتين سيُفضي إلى توثيق العلاقات بما يتناسب مع مصالحهما. لكن، في الواقع، تُظهر هذه الأرقام نقاط ضعف النموذج الاقتصادي الألماني الملزَم، نتيجة لعدم قدرته على تحفيز الطلب في سوقه الداخلية، بالبحث عن أسواق خارجية، ويجد نفسه اليوم في حالة منافسة خطرة مع الصين. منذ بضع سنوات، بدأت بكين تدريجياً مزاحمة برلين في ميدان التفوق التكنولوجي، المرتكز الرئيس لنجاح نموذجها، أي صناعة السيارات والآليات والتجهيزات المنزلية. وقد أفلحت الصين في الحدّ من الطلب على المنتجات الألمانية، بفضل القدرة التنافسية لمنتجاتها في الأسواق الخارجية، وعبر فرض قيود على استيراد تلك المنتجات على مستوى سوقها المحلي. غضبت ألمانيا ممّا اعتبرته غياباً للندّية، ناجماً عن الإجراءات الحمائية الصينية: الشركات الأجنبية التي تستثمر في الصين مضطرة للشراكة مع أخرى محلية في بعض القطاعات، بينما شراء حصص في شركات إلمانية من قِبَل تلك الأجنبية لا يخضع لمنظومة قانونية صارمة. لقد تَطلّب الأمر قيام شركة «ميديا» الصينية عام 2016 بشراء شركة «كوكا» الصناعية الألمانية الرائدة، المنتِج الأبرز للروبوت الصناعي، لكي تقوم برلين بتعديل قانونها حول التجارة الخارجية للحدّ من شراء الشركات الأجنبية لحصص في تلك الوطنية، عبر الاحتفاظ بالحق في التدخل إذا تجاوزت هذه العمليات 10% من رأسمالها (بينما كانت النسبة 25% في الماضي)، خاصة في القطاعات الحسّاسة المتعلقة بالأمن القومي. حاولت بكين الشروع في خطوة توافقية، من خلال إلغاء إلزامية الشراكة مع إحدى شركاتها الوطنية العاملة في قطاع صناعة السيارات، وتخفيض التعرفات الجمركية على السيارات، لكن هذه المبادرات بقيت دون مستوى توقعات برلين، ولم تزل مخاوفها من تراكم التراجع التكنولوجي لصناعاتها، خاصة في ميدان الذكاء الاصطناعي. وعلى الرغم من أن الاستثمارات الصينية في ألمانيا محدودة حتى الآن، إلا أن الدراسة الأخيرة التي أصدرتها «مؤسسة برتيلسمان» كشفت أن غالبية عمليات شراء الحصص الصينية تمّت في شركات ألمانية تعمل في هذا الحقل الاستراتيجي. وقد قامت مجموعة «كونتنبوراري أمبيريكس تيكنولوجي» الصينية بإنشاء أكبر مصنع لبطاريات السيارات الكهربائية في ألمانيا، وأوّل من وقّع عقداً بقيمة مليار يورو معها هو شركة «بي.أم دبليو» الألمانية المعروفة.
وقد أطلقت برلين «استراتيجيتها الوطنية الصناعية 2030» بقيادة الدولة للردّ على استراتيجية «صُنع في الصين 2025»، التي تبتغي تحويل الصين إلى دولة متفوّقة تكنولوجياً، ما يهدّد مباشرة الأسواق الألمانية. تفترض الخطة الألمانية اعتماد إجراءات حمائية لصالح الشركات الوطنية، وتخصيص استثمارات رسمية للقطاعات «ذات الأهمية الاقتصادية الكبرى»، وتشجيع التعاون على مستوى أوروبي. بات الألمان يستلهمون النموذج الصيني. تنصّ الخطة، أيضاً، من أجل الحفاظ على النموّ، والحدّ من اعتماد الاقتصاد على الخارج، على رفع مستوى الأجور وتطوير التقديمات الاجتماعية، أي أنها تمثل إعادة نظر جدّية في النموذج الألماني. ولكن المصاعب الاقتصادية والسياسية المتفاقمة مع الصعود المستمر لليمين المتطرّف، والانقسامات السياسية الحادّة في حزب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والتي تضاعف من حالة اللايقين المرتبطة بخلافتها، تُضيّق هامش المناورة المتاح لألمانيا على الصعيد الدولي، سواء أكان في مواجهة الصين أم الولايات المتحدة.